أدين بالفضل لكورونا لإتاحة الفرصة لي لسماع أغاني فريد الأطرش السلسة الناعمة، فقد أمضيت سنتين، خاصة خلال فترة حظر التجول الشامل، وأنا أستمع لروائعه لأني وصلت تقريباً لمرحلة التشبع من أغاني أم كلثوم وحليم ونجاة وأردت التنويع.
الغريب أني لا أزال أكتشف مدى عظمة إحساس ومشاعر فريد الأطرش عند سماعي لأغنية له من جديد، لأني لا أستطيع أن أقول إنها جديدة، بل معظمها مألوف لديّ، لسماعي لها بطريقة غير مباشرة في صغري، لكثرة إذاعتها على الراديو وبثها على التلفزيون، فقد كانت شعبيته جارفة قبل وفاته في السبعينات.
وجع أسمهان في حياة فريد الأطرش
للأسف حرمت نفسي لفترة طويلة من التمعن والاستمتاع بأغانيه، ولكن بغير قصد، ربما كان جهلاً مني أو غباءً أو لا مبالاة، أو لأن والدي لم يكن من معجبيه وكان يقلب المحطة الإذاعية فوراً عند سماعه لصوته خلال رحلاتنا لعمان بسيارته وأنا صغيرة، قائلاً: هذا بكاء وليس غناء. للأسف لم يعذر والدي فريد الأطرش على مشوار الحزن الذي كان يمشيه بعد مقتل أخته "أسمهان" في حادثة غامضة مفاجئة، والذي صبغ أداءه ولو نسبياً بمشاعر الوحدة والكآبة.
رغم المآسي والعقبات التي واجهته في حياته، فإن فنه لم يتأثر، بل ارتفع إلى أعلى المراتب. كانت لدى فريد الأطرش قدرة رهيبة على تنويع الجمل اللحنية السهلة الممتنعة والعذبة والتنقل بينها بنفس الوقت، في كل أغنية على حِدَة أو في الأغنية نفسها. أقول هذا وأنا لم أدرس الموسيقى قط، ولكن هذا لا يهمني، لأننا نحن الهوائيين (أصحاب برج الميزان) حبانا الله بميزة تذوق الجمال والاستمتاع به.
عندما أستمع لأغانيه أتوه طرباً ويتمايل رأسي لا إرادياً مع اللحن يميناً وشمالاً، لأن موسيقاه تدخل وبسلاسة تحت الجلد وتخترق الشرايين والأوردة وتصل إلى القلب مباشرة، وبعدها تتأنى وتمشي الهوينى حتى تصل للرأس، حينها فقط، أفكر بعظمة أنغامه المنسابة بدون مقاومة لتنقلني دون وعي إلى عالم هادئ وساكن، أنسى فيه الضجيج والمشاكل والهموم، ولو حتى لنهاية أغنيته القصيرة، وكم أتمنى لو تطول قليلاً لأبقى بتلك العوالم الأثيرة، لأغفل ولو لدقائق معدودة عن الحاضر الموحش الكئيب.
لحن فريد
كان من أوائل الملحنين العرب الذين استخدموا الأوزان الغربية في ألحانهم، ولكنه كان يؤكد دائماً، أنه يحرص ألا ينزلق إلى الاقتباس الذكي أو السرقة المباشرة، وإنما كان يسبح في بحر غربي، ليخرج منه بألحان جميلة، ممزوجة بالروح الشرقية الأصيلة والمزاج المحلي الشعبي.
بصراحة، لا يهمني إذا كان لحنا فريد الأطرش "أنا واللي بحبه" و"يا زهرةً في خيالي" قام بسرقتهما أو اقتبسهما أو ابتكرهما بنفسه، لأنه في الحالات الثلاث، قام بإنجاز عظيم، ولا أظن أن أي أرجنتيني سيتذمر عند سماعه لألحان التانغو التي أدمجها في الأغنيتين. كان قد صرح في لقاء صحفي، بأنه تعمد تقديم "القديم والحديث" خلال إنتاج فيلمه الأول "انتصار الشباب" بمشاركة أخته أسمهان في عام 1941، والتي سجلت مبيعات أسطواناته أرقاماً قياسية، وذلك بمزج الطابع الشرقي الشعبي مع إيقاعات الرومبا والتانغو الغربية، بعد أن وصل إلى نتيجة تؤكد على قدرة الموسيقى العربية على استيعاب الموسيقى الغربية وليس العكس.
كان شديد الفخر والانتماء للموسيقى الشرقية، وكان يصر على أن الموسيقى العربية تطورت في زمنه، وكان دليله، أن العديد من الموسيقيين الغربيين، ومن أهمهم فرانك بورسيل (Franck Pourcel)، أشهر قائد أوركسترا ومؤلف موسيقي فرنسي في القرن العشرين، اختار أربع مقطوعات من أغاني فريد الأطرش، هي، حبيب العمر ونجوم الليل وزمردة وليلى، وأعاد توزيعها وقامت الأوركسترا الفرنسية بعزفها على أسطوانة خالدة باسم "فسيفساء شرقية" (Mozaiek Orientale)، للأسف لم يستفد فريد الأطرش من مبيعات تلك الأسطوانة التي انتشرت في جميع أنحاء العالم، لأن حقوق الملكية الفكرية لم تطبق آنذاك على أصحاب الأعمال الأدبية والموسيقية والفنية، ولم تصبح شائعة في العالم إلا في نهاية القرن العشرين.
لاجئ في الوسط الفني
أظن أن سبب شقائه وكثرة التناقضات في حياته، كان انتماءه لعائلة الأطرش العريقة والتي مقرها في جبل الدروز، فقد كان يعتبر بين أهله وعشيرته من سليل الأمراء، أما في مصر فكان مجرد لاجئ درزي من السويداء السورية هرب من قمع الاحتلال الفرنسي. شعر بتأجج التمييز ضده بعد اندلاع ثورة الضباط الأحرار في مصر بتاريخ 23 يوليو/تموز 1952، والتي كان أفرادها يشعرون بحساسية شديدة ضد الأنظمة الملكية والطبقة الأرستقراطية، وكانوا في الظاهر يدعون إلى نشر مبادئ القومية والوحدة العربية، ولكن في الباطن أوجدوا الزخم لعملية "التمصير" في جميع المجالات والقطاعات حتى الثقافية.
الذي زاد الطين بلة، ظهور مغنٍ أسمر مصري حتى النخاع، يدعى عبد الحليم حافظ، في منتصف خمسينيات القرن الماضي، قام بثورة غنائية مع مجموعة من رفاقه الشعراء والملحنين الشباب. لم يستسلم فريد الأطرش، بل تأقلم مع الموجة الغنائية الجديدة، ولكنه لم يتخلَّ عن عوده الذي كان يذّكر به المستمعين بالجذور الشرقية الأصيلة لألحانه. للأسف ظل السقف الزجاجي قائماً، ولم تُمنح الفرصة لفريد لكي يتعاون مع حليم أو أم كلثوم، وظل يتحسر لأواخر أيامه ويتساءل عن أسباب الرفض لألحانه من قبلهما، وكاد حزنه على تلك القطيعة يوازي لوعته على فقدان أخته أسمهان في منتصف الأربعينيات.
كان "نغم في حياتي" آخر فيلم يقوم ببطولته، ولم يشهد فريد عرض ذلك الفيلم في دور السينما في عام 1975، لأن وفاته كانت في نهاية شهر كانون الأول عام 1974. الذي لفت انتباهي أنه في بداية الفيلم يقوم بغناء أغنية "حِبينا.. حِبينا" وهي من أكثر أغانيه بهجة، وتتخللها الدبكة اللبنانية الحماسية في قالب من المناظر الطبيعية الخلابة، لكنه يغني بعد ذلك أغنيته "علشان ما ليش غيرك"، وهنا يسقط القناع عن وجه فريد، وتنكشف مشاعره الحقيقية والتي يمكن اختصارها باليأس والحزن، رغم كثافة مساحيق التجميل على وجهه لإخفاء آثار المرض والإرهاق والشيخوخة.
تقول كلمات الأغنية:
علشان ماليش غيرك
الليل تسهرني
علشان أنا أسيرك
دايما محيرني
علشان ماليش غيرك
من أول يوم يا ظالمني
خليت النوم يخاصمني
وحاولت أنساك
ما نسيت غير قلبي معاك
وطاوعت هواك
ورضيت قسمتي وياك
يا حياة قلبي
وتحب فيا بس دموع عنيا
وتفرح لو يطول الليل عليا
يا حبيبي
أهواك وأصون حبك
ولا اجيش على بالك
ودموعي بتحبك
طول ليلها صاحية لك
علشان ماليش غيرك
يا حبيبي العين العين عايزاك
خليها يومين من عمري معاك
يا حبيبي حرام لا سلام ولا حتى كلام
عمرنا أيام أحلام بتمر قوام
يا حياة قلبي
حييجي يوم ندور ما نلاقيها
تعالى نفرح واحنا لسه فيها
يا حبيبي
تعيش وتتهنى بقلبي وعذابه
وأعيش أنا أستنى
وأرضى اللي ترضى به
علشان ماليش غيرك
تبدأ الأغنية باللوم والعتاب، ثم الاستجداء العاطفي، فالخضوع والاستسلام في نهاية الأمر. هذه مراحل اقتراب النهاية، ولم يسلم منها حتى فريد الأطرش. كان يعلم علم اليقين باعتلال قلبه وأن أيامه باتت معدودة، وكان يرى ميرفت أمين وحسين فهمي، اللذين شاركاه في بطولة الفيلم، في عز شبابهما وتألقهما، كل هذه العوامل ساعدت على جعل أدائه لهذه الأغنية قمة في الواقعية والمعاناة وخاصة البحة القريبة للحشرجة في صوته.
حياة بلا ربيع
كان يصّرِح في أيامه الأخيرة خلال اللقاءات التلفزيونية: أنا لا أستطيع العيش من دون فني وجمهوري، ويؤلمني ويعذبني أن لدي ألحاناً عديدة جاهزة، وأنا خائف ألا تسنح لي الفرصة لغنائها، ومشكلتي الكبرى أني أود مشاركتها مع الآخرين، ولكن لا أجد في بحثي إلا مؤدياً ولا أجد الخلاّق، لأنه إذا وجد الخلاّق وجد الفن، وإذا مات الخلاّق، ماتت الفنون ومعها كل شيء. كانت رؤيته واقعية ودقيقة، قال: لو أن هناك سلاماً عالمياً لجاء باخ جديد وبيتهوفن جديد، ولكن إيقاع الحياة أصبح سريعاً وانقلبت الحياة إلى "جاز". كان يشكو من المجهود والإرهاق، وأن حياته مهددة باستمرار، ولكن بإيمانه وشجاعته دائما يتغلب على المرض، ولكن ليس لفترة طويلة، فقد قهره اعتلال قلبه الضعيف في النهاية.
قال الموسيقار بليغ حمدي كلاماً رائعاً وجميلاً في رثاء فريد الأطرش، حيث أكد أنه ما من موسيقيٍّ في الوطن العربي لم يتأثر بفنه الشعبي من كبيرهم إلى صغيرهم، وكاذب من يقول عكس ذلك. أضاف بليغ: سمعت لحن لفريد الأطرش، خضِّني وبهرني، اسمه "أنا واللي بحبه"، عندما كنت صغيراً وعمري لا يتجاوز الخامسة عشر.
وقد حضر بعدها بسنين طويلة جلسة خاصة كان فيها الموسيقاران، محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش؛ حيث عرض الأول على الثاني، أن يتنازل عن خمسة من ألحانه مقابل هذه الأغنية الفريدة.
نهايةً أظن أن كلمات قصيدة الشاعر كامل الشناوي والتي قام بغنائها فريد الأطرش في أوائل الستينيات من القرن العشرين، اختزلت حياته المليئة بالبؤس والآلام حيث يقول فيها:
أنا عمر بلا شباب … وحياة بلا ربيع
أشتري الحب بالعذاب … أشتري فمن يبيع؟
أنا وهم … أنا سراب
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.