بكت أمي حين ماتت سلمى. ساعتها لم أكن بدأت في مشاهدة مسلسل "منعطف خطر" بعد، لكنها نادت عليّ واحتضنتني، ثم فجأة شرعت في البكاء، فزعت من رد الفعل غير المتوقع، وسألتها عن السبب، فقالت وسط دموعها: "قتلوا البنت". حين هدأت عرفت أنها تقصد فتاة في المسلسل الذي تتابعه مؤخراً.
حين بدأت في مشاهدة مسلسل "منعطف خطر"، وبدأت الخطوط الأساسية للقصة تضح لي، وتبلورت في ذهني فكرة واحدة.. المسلسل مأخوذ بالكامل عن قضايا حقيقية، ربما لم يكتب صانعو العمل هذا على الأفيش، لكن جميعنا نعرف أن هذه القصص التي تم تضفيرها في مسلسل حدثت بالفعل على أرض الواقع، وتفاعلنا معها بالحزن والتعقيب. لقد أصبح الواقع أكثر قدرة على الإبهار من الخيال. كل شيء يمكن حدوثه في الواقع، حتى ذلك الذي لا يستطيع الخيال أن ينتجه أصلاً.
رؤية فنية لمنعطف خطر
منعطف خطر مسلسل من خمس عشرة حلقة، ومن إنتاج منصة شاهد vip، وإخراج السدير مسعود، ابن الفنان الكبير غسان مسعود، والذي يعد هذا هو العمل الدرامي الثاني له، بعد دراما "قيد مجهول"، والفيلم القصير "خلل". المسلسل من قصة وسيناريو محمد المصري. تدور أحداثه حول تحقيق الضابط هشام، الذي يلعب دوره باسل الخياط، في مقتل الشابة الإنفلوسنر سلمى الوكيل، التي تلعب دورها سلمى أبو ضيف.
حقق المسلسل متابعة ومشاهدات مرتفعة جداً على وسائل التواصل الاجتماعي، وربما سبب ذلك هي نوعية المسلسل النادرة، التي لا يتم إنتاجها بسهولة في مصر، وإن تم لا تنتج بالصورة البديعة التي ظهر عليها منعطف خطر.
حيث هناك تركيز على الكادرات وزوايا الإضاءة والملابس والديكور، الذي من الجدير بالذكر أنه تكلف نحو ثلاثة ملايين جنيه، وتم بدء العمل عليه قبل ستة أشهر من بدء التصوير، خاصة ديكور منزل جمال والد سلمى، الذي يلعب دوره باسم سمرة، ومديرية الأمن.
المسلسل من بطولة ريهام عبد الغفور وباسم سمرة، وسلمى أبو ضيف، وباسل الخياط، وأحمد سالم، ومجموعة أخرى من الوجوه الشابة.
من الأداءات التي أثارت إعجابي وإعجاب معظم مشاهدي المسلسل هو أداء سلمى أبو ضيف المتطور مؤخراً، والذي ربما تطلب منها مجهوداً كبيراً لتحقيقه، خاصة بعد موجة من محاولات التقليل منها ومن موهبتها، وتوجيه الغضب عليها وعلى آخرين ممن يُظن أنهم دخلوا الوسط الفني طمعاً في الوجود فيه فقط، بلا رغبة حقيقية في بذل مجهود لاستحقاق الظهور على الشاشة.
باسم سمرة وريهام عبد الغفور كذلك أظهروا أداء بديعاً وتقمصاً مرعباً لتفاصيل الدور. ذكرت سلمى أبو ضيف في مقابلة قصيرة لصالح برنامج الفصلة، أنها ترى تقمصه ممتازاً لحد غير قابل للتصديق. وذكرت أيضاً أن المسلسل حقق التريند خارج مصر في أمريكا وتركيا، وأن الناس تتساءل كلما رأوها في الشارع: مين قتلك؟
يُعد منعطف خطر من أكثر السيناريوهات المحكمة التي تم عرضها مؤخراً، حيث لكل حدث تفسير له. ويمكن الحكم على السيناريو الجيد حين لا يتركك العمل بعد الانتهاء منه حيراناً أو في جعبتك أسئلة. طبعاً تختلف الأسئلة الفنية عن الأسئلة المرحب بها لإثارة مواضيع للتفكير والمناقشة، كما سنستعرض بعد قليل. لكن رغم جودة السيناريو حتى الحلقة الرابعة عشرة فإن النهاية لم تكن موفقة بالنسبة لي، ويمكن كذلك بالنسبة لبعض الجمهور. إذ إنه منطقياً لا يمكن أن يكون قد حدث تعاون بين جمال وحسن في مقتل سلمى الوكيل. حيث في الحلقة الأولى نعرف أن جمال سافر إلى العين السخنة لقضاء العطلة مع زوجته وولديه سليم وآدم.
فمن غير المنطقي أن يستطيع الوصول لسلمى في شقة جاردن سيتي، ثم الذهاب بها كجثة إلى المنفى الزراعي لدفنها، ثم العودة مجدداً إلى جاردن سيتي لاستعادة السيارات، ثم العودة مجدداً للعين السخنة، كل ذلك دون أن يطلع النهار على جيهان النائمة في السرير أو دون أن تلاحظ طول غيابه؟ لأنه من التحقيق نعرف أن سلمى تركت الحفل الساعة الحادية عشرة، يمكن توقع أنها أصبحت في شقة جاردن سيتي نحو منتصف الليل، فهل يمكن أن تحدث جريمة القتل بكل تبعياتها ويعود دون أن تطلع الشمس؟
النقطة الثانية في تبعيات جريمة القتل غير المنطقية هي أنه هل يعقل بعد ارتكاب جمال لجريمة القتل أنه لن يفكر في محو دليل إدانته هو وأخيه من هاتفه على واتساب، حتى تتمكن جيهان من العثور عليه في نهاية المسلسل ونعرف الحقيقة على لسانه بعد ذلك؟
يبدو بالنسبة لي أن ذهابه لسلمى ليلة الحادث بالكامل شيء غير منطقي، وكأنه تم إقحامه، مما أفسد متعة سلاسة وانضباط إيقاع المسلسل في الحلقة الأخيرة. لكن ذلك لا يعني وجود حبكات صغرى طوال المسلسل أبهرتني طريقة عرضها.
رؤية مجتمعية لقضايا منعطف خطر
يمكن حصر القضايا التي يناقشها المسلسل في ثلاثة خطوط، قضية التربية وعلاقة البنوة والأبوة، وقضية الفساد السياسي وانعدام الإنسانية في مقابل المادة، وقضية التأثير الضخم للسوشيال ميديا على طريقة جريان الأمور.
في المسلسل نتأمل ثلاثة أشكال من علاقات البنوة والأبوة، أولها هي علاقة سلمى الوكيل بأبيها جمال، جمال القادم من الصعيد غير المعتاد على انفتاح عالم المدينة، والذي تكبر ابنته لتختار أن تشارك حياتها على السوشيال ميديا وتكون شخصية مشهورة، لها جمهور وطموح في أن تصل إلى ما هو أبعد من ذلك. تمر علاقتهما بمراحل من الشد والجذب، أحياناً يرخي الحبل ويوافق على مضض على اختياراتها، وأحياناً يرفضها بحسم. والرفض القاطع لطموح سلمى بالسفر وعدم قدرة والدها على تصور عِظم ما تعنيه دراسة السينما لسلمى هو ما قاد كلاهما في النهاية لهذا المصير.
العلاقة الثانية هي علاقة خالد سليمان يحيى بوالده، رجل الأعمال المعروف المتسلط سليمان يحيى، والتي تظهر بوضوح كعلاقة سلبية مؤذية للابن خالد، لرغبة أبيه في السيطرة على حياته وتسييرها بالطريقة التي يريد، وتذبذب خالد بين الرفض ومحاولات الحصول على حياة تخصه، وتشبهه والموافقة على ما تم تخطيطه له، لعل وعسى يقابل مصيراً بعيداً عن اليأس والأسى، كالذي لاقاه حين قرر اختيار مصيره بنفسه، لكن بالطبع أي شيء يفعله الإنسان وهو مجبر عليه لا ينجح أبداً.
العلاقة الثالثة هي علاقة ضابط المباحث هشام منتصر بأبيه وابنته. ويمكن أن تكون أكثر العلاقات شائكية، حيث إنها تلمس منطقة لا يمكن التحدث فيها بسهولة وتثير جدلاً واسعاً، من حيث هل من حق الأبناء رفض الاعتراف بفضل الآباء متى ما شعروا أنه لا فضل لهم عليهم؟ هشام الذي يحاول بكل وسعه ألا يكون مثل والده، وأن ينتهج مسلماً مختلفاً لتربية ابنته الوحيدة نور.
ربما من أكثر النقاط التي أعجبتني في المسلسل هي تركيزه على إظهار مدى قوة السوشيال ميديا كوسيلة لإظهار الحق ووضع الضغط على الجاني، رغم أنها كذلك سلاح ذو حدين، حيث تستطيع بسهولة نشر الشائعات وفضح وتشهير آخرين بالكذب والضلال. لكن ربما من أبرز نقاط النور أن رواد السوشيال ميديا أصبح من الصعب توجيههم بشكل مضلل، أصبح من السهل الإشارة بأصابع الاتهام نحو الجاني الحقيقي والدفاع عن المجني عليه.
نحتاج في الوطن العربي إلى أعمال أخرى مشابهة لهذه التجربة الفريدة، من الناحية الفنية، من حيث قوة الحبكة وتماسك الأحداث والإيقاع الشيق للقصة، ومن الناحية المجتمعية في مناقشة القضايا التي تمس المجتمع وتؤثر فيه وتجعله يعيد التفكير في الاختيارات، وما يمكن أن تؤدي له من نهايات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.