جمعية الصناعة والأعمال التركية أكبر شركات الأعمال في تركيا أكدت تلقيها تهديداً أمريكيّاً بفرض عقوبات عليها من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، إذا ما قررت الأولى الاستمرار في التعامل مع روسيا. لطالما وصفت العلاقات الأمريكية-التركية بأنها علاقات استراتيجية، ولكن هذه العلاقات شهدت مجموعة من الأزمات ومراحل لفقدان الثقة حولتها من المستوى الاستراتيجي إلى مستوى إدارة النزاع. إن المحدد الأول والأخير الذي يحكم هذه العلاقة هو "الاستقلال".
تاريخياً تطورت العلاقات في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أثناء مؤتمر القاهرة الثاني في ديسمبر عام 1943، ودخول تركيا في الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء في فبراير عام 1945. أصبحت تركيا عضواً في ميثاق الأمم المتحدة في وقت لاحق من ذلك العام. أدت الصعوبات التي واجهتها اليونان في قمع التمرد الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى جانب مطالب الاتحاد السوفييتي بقواعد عسكرية في المضيقين التركيين، إلى إعلان الولايات المتحدة مبدأ ترومان عام 1947. أعلن المبدأ النوايا الأمريكية لضمان أمن تركيا واليونان، وأدى إلى دعم عسكري واقتصادي أمريكي كبير. تجلى هذا الدعم في إنشاء جيش خطوط خلفية سري، يشار إليه بـ "مكافحة حرب العصابات"، في إطار عملية غلاديو. انضمت تركيا إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في عام 1952 بعد مشاركتها مع قوات الأمم المتحدة في الحرب الكورية.
بدأت العلاقات بين البلدين بالتدهور في عام 2003، إذ رفضت تركيا السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجرليك الجوية لغزو العراق. وشكلّت حادثة إسقاط تركيا لطائرة روسية في سماء سوريا في نوفمبر 2015 منعطفاً تاريخياً في العلاقات الأمريكية-التركية، إذ تنصلت الولايات المتحدة وحلف الشمال الأطلسي من جميع العهود ومواثيق الدفاع المشترك وتخليا عن تركيا بشكل كامل، وهذا ما دفع الرئيس رجب طيب أردوغان إلى نزع فتيل الأزمة مع روسيا وإيجاد تحول مهم ولافت في العلاقات مع موسكو.
ازدادت هذه العلاقات سوءاً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو عام 2016، وذلك في الوقت الذي توجهت فيه السياسة الخارجية تدريجياً نحو البحث عن شراكات مع قوى أخرى مثل روسيا وإيران والصين.
عودٌ على بدء، كما قلنا في بداية مقالنا إن المحدد الرئيس في طبيعة العلاقات التركية-الأمريكية هو الاستقلال. هذا المحدد ليس مختصاً بتركيا وحسب، بل هو ينسحب على جميع العلاقات الدولية التي تدخل فيها الولايات المتحدة طرفاً. أمريكا وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت القطب المهيمن على العالم وحاولت مرارا وتكرارا تحويل الدول الصغيرة إلى توابع للسياسات الأمريكية. لم تكتفِ الولايات المتحدة بذلك وحسب، بل حاولت إركاع الدول الحليفة لها ومصادرة استقلالها الوطني كذلك. وهذا بالفعل ما حكم العلاقة فيما بينها وبين أنقرة.
في تاريخها الحديث واجهت تركيا مقاومة أمريكية لكل محاولة للاستقلال الذاتي وصناعة القرار. ومن هنا قد فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على تركيا عندما حاولت الأخيرة الحصول على صواريخ إس 400 الروسية. لم تكن تركيا البادئ بهذه العملية، بل كانت مساعيها هذه ردة فعل على رفض الولايات المتحدة تسليم تركيا طائرات من طراز إف 16 أو طائرات أكثر تطوراً.
ليس التقارب الروسي-التركي هو ما يقلق الولايات المتحدة، بل ما يقلقها هو الاستقلال الذاتي والانخراط في علاقات مشتركة ومحاولة التحول نحو التعامل بالعملات المحلية من دون أن يكون الدولار جزءاً من المعاملات الاقتصادية بين هذه البلدان.
وفي الواقع لدينا أمثلة حية لكل ما تم قوله أعلاه، سوف نختصرها بما يلي:
أولاً: بعد أن رفض عمران خان إقامة قواعد أمريكية على الأراضي الباكستانية بعد الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وبعد أن رفض عمران خان الانخراط في تأييد الولايات المتحدة في الحرب الروسية الأوكرانية، اتجهت واشنطن للتآمر على خان والإطاحة به. وتحدث خان عن مؤامرة أمريكية لتغيير نظام الحكم في البلاد، وهذا ما حدث بالفعل.
ثانياً: جمَّدت الولايات المتحدة أرصدة أفغانستان، والتي تقدر بنحو 7 مليارات دولار، وذلك لتحويل الحكومة الجديدة إلى تابع لها. وإن عملية الاغتيال الأخيرة لأيمن الظواهري، والتي شاركت فيها أجهزة المخابرات الباكستانية و(بعض عناصر طالبان -حسب روايات-) تدخل في هذا السياق.
ثالثاً: إن عملية العقوبات الممنهجة ضد طهران تدخل كذلك في محاولة تركيع الدول للإرادة الأمريكية. طهران التي خالفت المشاريع الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وتعاونت مع تركيا في سبيل إيجاد حلول في سوريا تواجه عقوبات استقلالها الذاتي، تماماً كما حدث ويحدث مع تركيا.
هذه الأمثلة هي غيض من فيض حول طبيعة السياسة الأمريكية المتبعة ضد الأصدقاء والأعداء على حدٍّ سواء. إن أكثر ما يخيف الولايات المتحدة هذه الأيام هو التوجه المتزايد للدول نحو عملية استقلال ذاتي وبناء علاقات ثنائية وجماعية خارج المدار الأمريكي وهي عملية تنفذها اليوم كل من تركيا وإيران والإمارات والسعودية. ويدخل على هذا الخط كذلك كل من الصين وروسيا.
هذه العلاقات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تتعداها إلى خلق نوع من المقاومة الاقتصادية لهيمنة الدولار على التعامل الاقتصادي بين دول العالم، ولذلك هناك توجه نحو التعامل بالعملات المحلية ومحاولة إيجاد آليات اقتصادية لتعطيل العقوبات الأمريكية.
ختاماً، ليست تركيا أو إيران أو روسيا أو حتى الصين والسعودية والإمارات من ساهمت بوصول العلاقات مع الولايات المتحدة إلى هذه الدرجة، بل هي السياسات الأمريكية القائمة على مصادرة الإرادة السياسية والاستقلال الذاتي هي من دفع نحو تدهور العلاقات. إن الحلول المقترحة لهذه الأزمات هو زيادة التعاون الدولي والمحافظة على الاستقلال في مواجهة الأطماع الأمريكية؛ فالعالم يشهد مرحلة انتقالية مهمة من أحادية القطب إلى الأقطاب المتعددة، وعلى تركيا ودول المنطقة أن تكون جزءاً من هذه الأقطاب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.