العلاقات المغربية الفرنسية مرشحة في الأسابيع القليلة القادمة للدخول في مسار من التوتر والصراع، يتجاوز بكثير مستويات البرود التي تم بها تسقيف حجم الخلاف بين البلدين في السنة الماضية.
أزمة تخفيض التأشيرات إلى النصف بالنسبة إلى المغرب، والتعليل الفرنسي الذي تم به تبرير القرار أغضب الرباط، ومس مصداقيتها كشريك موثوق في محاربة الهجرة غير النظامية، لم تكن في الواقع سوى الجوانب الشكلية لطبيعة الأزمة بين البلدين.
في السنة الماضية (سبتمبر 2021) أجابت الخارجية المغربية بحدّة على القرار الفرنسي، وأكدت أن مصالحها القنصلية أعطت أكثر من 400 تصريح لمرور المهاجرين المغاربة غير النظاميين لمغادرة فرنسا إلى المغرب، وأن المشكلة تتعلق بالإجراءات الخاصة بكورونا، وأن المغرب لا يقبل دخول أي مواطن أياً من كان إلى أراضيه دون الحصول على كشف اختبار فيروس كورونا، وأن السلطات الفرنسية لم تسهل حصول المواطنين المغاربة عليه.
كانت هذه هي الحكاية الرائجة المفسرة لبرود العلاقة بين البلدين، لكن بعد مرور حوالي سنة على هذا الموضوع، لا أحد اليوم يعتقد أن أزمة التأشيرات هي التي تفسر استمرار موقف الصمت بين البلدين وبروز مؤشرات للتوتر المحتمل في الأسابيع القليلة القادمة.
مؤشرات ذلك، أن الزيارات الدبلوماسية توقفت بين مسؤولي البلدين طيلة هذه السنة، ليتم خرق القواعد الأساسية في تدبير العلاقة الفرنسية مع المغرب والجزائر، فقد اعتاد قصر الإليزيه أن تكون الوجهة الأولى لأي رئيس منتخب هي الرباط، وهو ما خالفه الرئيس ماكرون في ولايته الثانية، وفضل بدء زيارته للجزائر بدل الرباط ضمن أجندة خاصة، ترمي بها إلى إصلاح علاقتها مع حكام قصر المرادية، وفي الوقت ذاته، الظهور بمظهر الوسيط الموثوق الذي يريد إقامة قمة رباعية مصغرة تجمع الرباط والجزائر ومدريد بواسطة باريس للتوصل إلى تفاهمات أساسية في المنطقة تطوى بها العديد من الخلافات.
في المقابل، لم تُبدِ الرباط طوال السنة الماضية أي حيوية اتجاه فرنسا، وفضلت أن تدير علاقاتها الاستراتيجية بعيداً عنها، بل أخذت مسافة من مقاربتها في بعض الملفات التي كانت لهما فيها رؤية مشتركة؛ مثل ملف مالي التي انسحبت منها القوات الفرنسية ودخلت في علاقة توتر كبيرة مع السلطات المالية، بينما اتخذ المغرب مقاربة براغماتية، ولم يقطع حبل العلاقة مع هذه السلطات، وفضل أن يديرها من زاوية الحفاظ على مصالحه وعلى دوره الأمني في المنطقة.
خطاب ذكرى ثورة الملك والشعب الأخير (20 أغسطس) والذي أكد فيه الملك محمد السادس أن الصحراء باتت تشكل النظارة التي ينظر بها المغرب إلى علاقاته الخارجية، ودعا فيه الدول الحليفة إلى مراجعة ترددها وغموضها في الموقف من هذا الملف، حمل إشارة دالة، وربما أطلق صافرة إنذار كبيرة لباريس، تؤذن بقرب دخول العلاقات لمنعطف حساس، يسوده إما التوافق التام والاستراتيجي، أو التوتر وانقطاع الصلة الاستراتيجية بين البلدين.
في العمق، وبعيداً عن الأزمات الظاهرية التي تخفي جوهر المشكل، يمكن أن نسجل خمسة ملفات تسببت في برود العلاقة بين باريس والرباط، على الأقل من زاوية النظر الاستراتيجية الفرنسية؛ أولها إبرام المغرب للاتفاق الثلاثي، والذي بمقتضاه اعترفت الإدارة الأمريكية بمغربية الصحراء، وهو الملف، الذي يعني من وجهة نظر فرنسا دخول شركاء جدد على دائرة الشراكة الأمنية والاستراتيجية، وتراجع الاهتمام المغربي بباريس على هذا المستوى.
الملف الثاني، ويخص الشراكة المغربية الإسبانية، التي بلغت مستويات حساسة من وجهة نظر باريس بعد تحول الموقف الإسباني من الصحراء، فقد تعززت مكانة إسبانيا كشريك تجاري أول للمغرب، بعد أن كانت فرنسا لا ترضى في العقود السابقة أن ينافسها على هذه الصدارة أحد، وبعد أن دخلت إسبانيا إلى مربعات أخرى غير الشراكة التجارية، ومنها على الخصوص الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية، وفي قطاعات جد حساسة تتعلق بالطاقة والاستثمارات الكبرى العابرة نحو إفريقيا عبر الصحراء.
الملف الثالث، ويتعلق، بالشراكة المغربية الألمانية، والتي بلغت مستويات كبرى، بعد تحول الموقف الألماني في الصحراء، لا سيما في مجال الطاقة (الطاقات المتجددة، الهيدروجين الأخضر) وفي مجال صناعة السيارات (التروبيكان) واستقبال المغرب لعدد من المصانع التي كانت مستقرة في روسيا وأوكرانيا، سواء التي تتخصص في صناعة الكابلات أو التي تتخصص في صناعة الرقائق الإلكترونية.
أما الملف الرابع، فيعود للشراكة المغربية الصينية التي تعززت منذ جائحة كورونا (شراكة مغربية صينية لإنتاج لقاح سينوفارم الصيني) ووصلت حد إزاحة فرنسا من بعض الصفقات التي كانت في الغالب ما تنفرد بها، ومنها على وجه الخصوص صفقة القطار فائق السرعة الذي يعتزم المغرب إقامته بين الدار البيضاء ومراكش ثم أكادير.
الملف الخامس، ويهم الشراكة المغربية البريطانية، لا سيما على مستوى الطاقة؛ إذ أبرمت الرباط وباريس اتفاقاً يقضي بتزويد بريطانيا بالكهرباء (طاقة صديقة للبيئة) عبر كابلات بحرية (1500 كيلومتر بقيمة 16 مليار جنيه إسترليني) تكفي لسبعة ملايين أسرة بريطانية في أفق 2029.
الرؤية الفرنسية للتحرك المغربي بعيداً عن معطفها، تعتبر أن المغرب لم يُبقِ أي مساحة لباريس في شراكاته الاستراتيجية؛ شراكاته الأمنية (الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل، إسبانيا)، وشراكاته الاقتصادية (الولايات المتحدة الأمريكية، إسبانيا، الصين) وشراكاته التجارية (أزاح باريس من الصدارة، ويشرك فاعلين آخرين لم يكونوا أصلاً في دائرة المنافسة لباريس) وشراكاته في مجال الطاقة (ألمانيا وبريطانيا)، وأن هذا الوضع الجديد جعل من المغرب فاعلاً منافساً، لا شريكاً، وأن باريس لم تتعود على هذا الوضع منذ احتلالها للمغرب.
ملف آخر، أفرزته الحرب الروسية على أوكرانيا، يتعلق أكثر بالبُعد الاستراتيجي، والذي تحرك فيه المغرب بعيداً عن المعطف الفرنسي، ويتعلق بالشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية لمنع توسع النفوذ الروسي في المنطقة، فعلى الرغم من أن النفوذ الفرنسي هو المستهدف الأول من توسع نطاق النفوذ الروسي في مالي وفي غرب إفريقيا، فإن التحرك الفرنسي لم يتجاوز البعد السلبي (سحب القوات من مالي)، بينما كان تحرك المغرب واضحاً من خلال اجتماعات مسؤولين عسكريين على أعلى مستوى (زيارة مسؤولين عسكريين موريتانيين وسنغاليين إلى الرباط ثم المنطقة الجنوبية) فضلاً عن شراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية (الأسد الإفريقي) لخلق استراتيجية مضادة تمنع توسع النفوذ الروسي في المنطقة، لا سيما أن الجزائر أضحت تمثل داعماً لوجستياً واستراتيجياً لموسكو في مسعاها الإقليمي في شمال إفريقيا وفي غربها أيضاً.
انعكاسات الغضب الفرنسي، لم تظهر فقط على مستوى أزمة التأشيرات، بل ظهرت بشكل واضح حول زيادة منسوب الغموض في موقفها من الصحراء، لا سيما أنها كانت تمثل الداعم القوي للمقترح المغربي للحكم الذاتي في الصحراء، وأصبح بعض مسؤوليها يتحركون بشكل غامض لدفع الاتحاد الأوروبي إلى إقرار معايير في التعامل مع المنتجات المغربية، تقضي بإلزام المغرب بالتصريح بأن هذه المنتجات ليست قادمة من الصحراء المتنازع حولها، وذلك سعياً منها للتوافق مع معايير محكمة العدل الأوروبية التي ألغت في السنة الماضية اتفاقيتين تجاريتين بين الاتحاد الأوروبي والمغرب، علماً بأن الاتحاد الأوروبي والمغرب أصدرا بلاغاً مشتركاً عقب قرار محكمة العدل الدولية يقضي باستمرار الشراكة بينهما.
كما ظهر هذا الغضب أيضاً على مستوى ديني؛ إذ اتجهت فرنسا إلى التزام مقاربتها في تأطير الحقل الديني داخل أراضيها بعيداً عن أي تنسيق مع المغرب، وسارت بعيداً عن رؤيتها السابقة التي كانت تعتبر المغرب شريكاً أساسياً في التنسيق في إدارة الشأن الديني في فرنسا.
عملياً، يصعب على فرنسا أن تسير في اتجاه التصعيد مع الرباط، لسبب بسيط، وهي أنها تتوفر على حوالي ألف شركة بالمغرب تحظى بامتيازات واسعة (تمتاز بوضع الأفضلية)، ولها بالمغرب أكثر من خمسين ألف مواطن فرنسي مقيم بالمغرب، وهي تعتمد بشكل كبير على التعاون الأمني مع المغرب، لأنها سبقت أن جربت توقيف المغرب للتعاون الأمني والقضائي مع الرباط سنة 2016، فواجهت ضربات مؤلمة استهدفت باريس ونيس، واضطرت بعدها إلى الاقتناع بمراجعة رؤيتها في مالي، والاقتناع بضرورة التعامل مع المغرب، كشريك يحمل رؤيته الخاصة، بدل النظر إليه كمعين أو منفذ للسياسة الفرنسية في مالي.
كما يصعب على فرنسا أن تنافس إسبانيا في شراكتها للمغرب، لسبب بسيط وهي أن الحرب الروسية على أوكرانيا أعطت للجغرافيا كلمتها، وجعلت من إسبانيا دولة محورية في المجال الطاقي، وفرضت على فرنسا أن تكون مجرد دولة ملحقة مرتهنة بالآخرين، فإسبانيا هي التي يربطها أنبوبا غاز بالجزائر، الأول من يصلها بالجزائر بشكل مباشر، والثاني يصلها بالجزائر عبر المغرب، وإسبانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي يفترض أن ترتبط بمشروع أنابيب الغاز النجيري سواء كان المشروع مغربيّاً أو جزائريّاً، بينما كل ما تملكه فرنسا، وهي أنابيبها الموصولة مع ألمانيا، وأن تمد أنبوباً جديداً من الغاز على مسافة 800 كيلومتر متر يربطها بأنابيب الغاز الموجودة بإسبانيا.
لهذه الاعتبارات كلها، يرجح أن تدخل العلاقات المغربية الفرنسية أزمة عميقة؛ بسبب إصرار المغرب على تحكيم موضوع الصحراء في علاقاته الخارجية، فيرجح تبعاً لذلك أن يزيح المغرب فرنسا من بوصلته بشكل تدريجي، وأن يقلل من الاهتمام بدورها على كافة المستويات، وذلك بشكل متدرج، وأن يسير على شاكلة ما فعل مع إسبانيا وألمانيا، لكن مع اختيار الزمن المناسب، أي فترة الشتاء التي يرجح أن تكون فرنسا فيها الأكثر تضرراً بسبب أزمة الطاقة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.