الفقر وأنسو فاتي
الفقر هو الحاكم الرئيسي في تلك القصص، يوم أن قرر بوري فاتي التنازل عن حلمه لخدمة أسرته، بوري كان لاعباً في الدرجات الأدنى في بيساو، بيساو عاصمة غينيا بيساو.
لكنه الفقر، الحاكم الرئيسي في تلك القصص، لذلك حاول بكل ما أوتي من قوة أن يغير الوضع؛ حتى وإن كلفه الأمر أن يتنازل عن حلمه، وبالفعل، وُلد أنسوميني أنسو في ظروف كبيسة، في وقت الحرب وازدياد الفقر في بيساو.
ومع تضخم حجم الأسرة، كان على بوري أن يبحث عن وطن جديد وشغف أشد، تاركاً خلفه أسرة تُطعم يومها بيومها؛ رحل عن غينيا، رحل إلى البرتغال، سمع أنهم يريدون لاعبين، فلعب في الدرجات الأدنى هناك.
وفي البرتغال كان بلا مأوى وبلا وطن، وبلا طعام وبلا أهل، وأيضاً بلا حلم، لقد ترك كل شيء في بيساو وتركه كل شيء في البرتغال.
جمع الزجاج في البارات، باع الأطعمة على الأرصفة، لدرجة أنه تسول للبحث عن المال، ثم ماذا؟ ثم وجد فرصة سانحة للهجرة إلى إسبانيا، هو الذي يعمل سائقاً جيداً نوعاً ما، وجد تلك الفرصة الذهبية للبحث عن مصادر رزق جديدة في بلد لا يعرف أي شيء فيه.
وفي إسبانيا، منحت الحياة أنسو فاتي قبلة على جبينه، بعد أن أشاحت بوجهها لسنوات عنه، إنها ماريناليدا، التابعة للأندلس ومدينة إشبيلية، إنها ماريناليدا وعمدتها، الذي وافق على أن يعمل بوري فاتي لديه سائقاً خاصاً.
وبعد أن قدم أوراق كفاءته، كانت فرصة أن يحكي، لأول مرة، وأن يجد من يستمع، لأول مرة، بعد خروجه من بيساو، كان العمدة ينصت جيداً لكل ما قاله بوري، يسمع كيف ساءت الأحوال، ويسمع قصته الغريبة من لاعب كرة قدم لمجرد سائق خاص.
حينها فتح أبواب مدينته لأسرة بوري، وطلب منه أن يُحضر عائلته المفقودة في بيساو إلى ماريناليدا.
متى بدأ كل شيء؟
بدأ كل شيء في السادسة من عمره، هو الذي وُلد في عام 2002، كان في أشد فترات توهج الكرة في إسبانيا، يوم أن جلب ريال مدريد كافة ذخيرة العالم في صفوف جيشه وعلى رؤوس قادته.
كان أنسوميني أنسو فاتي يحلم بأنه يُمثل هذا النادي، إنه ريال مدريد بوجود كريستيانو رونالدو، ريكاردو كاكا، تشابي ألونسو، كريم بنزيما، وغيرهم من الأسماء التي أحدث قدومها ضجة غير عادية في أوروبا وقتها.
فاتي، الذي كان يحلم بتمثيل ريال مدريد، كان بالفعل مشجعاً له، وشقيقه الذي يكبره، برايما، تقدم خطوات للأمام حينما كان أنسو ما زال يفهم كيف تُلعب اللعبة.
برايما، كان قد انضم فعلياً لأكاديمية إشبيلية بالفعل، وفي الوقت نفسه لا ضرر من أن يكون برايما وأنسو معاً في نفس الفريق؛ لكن الظروف حالت بين أنسو وإشبيلية في ذلك الوقت.
في الجوار كان نادٍ بسيط يُدعى هيريرا، إنه النادي الذي ينتمي للمدينة التي يتواجد بها أنسو، والذي قضى فيه سنة واحدة كانت كفيلة بأن يركض خلفه إشبيلية ويتمنى وصاله.
يوم أن انضم لأكاديمية إشبيلية، حاله حال شقيقه الأكبر برايما، كان أنسو قد تفوق على ما فشل فيه شقيقه؛ أن يخطف أنظار كشافة ريال مدريد وبرشلونة، وأن يصل بما يريده إلى نقطة يستطيع الاختيار عندها.
وأتى الكشافة، وتفاوضوا مع إشبيلية، وحينما لم يجد حلاً للفريق الأندلسي، قرروا الذهاب إلى أسرة أنسو نفسها، والتفاوض معها على طريقتهم وبأسلوبهم الذي يريدون في ختامه الظفر بخدمات أنسو.
وحينما وصل الأمر إلى إشبيلية، حاولوا بشتى الطرق أن يمنعوا خروج تلك الموهبة بسهولة من أكاديميتهم لأكاديمية أكبر قطبين في إسبانيا: برشلونة وريال مدريد.
كان الحل الأنسب أن يُمنع أنسو فاتي من لعب كرة القدم، مُنع من قِبل إشبيلية لمدة سنة كاملة، لا يلمس الكرة ولا يقترب منها، وبرشلونة كان المنقذ الدائم لكل المواهب الكروية طوال الوقت.
موهبة عظيمة لكن الحظ..
يوم أن ظفر برشلونة بخدمات أنسو فاتي، ووضعه في قائمة لاماسيا، كان فاتي بقدر هذه الثقة، وعلى أهبة الاستعداد لتحقيق ما هو أكبر من عمره وجسده.
من شدة تألقه ولمعانه في الفئات السنية، تخطى العديد من القوانين داخل النادي وتدرج في الفئات السنية الملائمة لعمره وغير الملائمة، لدرجة أنه أصبح كابتن للفريق في ذلك الوقت.
لكنه الحظ، الحظ الذي لعب دور القاضي في مسيرة العديد من اللاعبين الموهوبين، الحظ الذي أتاه على حين غُرة، حدث ذلك في ديسمبر/كانون الأول من سنة 2015.
في الثالثة عشرة من عمره، كسر مضاعف في الساق أوقف هذا الحلم، وحطم ما تبقى منه ومن جسده؛ حتى وإن أراد المواصلة لما هو أبعد.
يومها ظن أنسو فاتي ومن معه أن كل شيء قد انتهى، وأن الصعود الصاروخي كان لا بد أن يُصاحبه سقوط حر بنفس الكم.
ثمانية أشهر كانت المدة التي احتاجها فاتي للعودة لممارسة اللعبة التي يُحب، وبرشلونة الذي ينتمي إليه، والموهبة التي كان من المستحيل أن تموت.
في يوليو/تموز من عام 2019 وقَّع أول عقد رسمي له مع الفريق الأول، فتى يُقال له أنسو فاتي من أسرة غينية مسلمة حقق ما أراد من الحياة وأكثر، الفتى الذي لم يكن أتم السابعة عشرة من عمره، كان بعدها بعام واحد يقف على خط التماس في الكامب نو.
إنه أصغر لاعب يرتدي قميص برشلونة في أية مسابقة رسمية للنادي بعد فيسينتي مارتينيز، ظهوره الأول كان ملحمياً، الفتى الصغير بعد المباراة كان يحتضنه ميسي ويساعده ويطلب منه أن يسترخي لكي ينفجر عما قريب.
إنه أصغر لاعب يسجل هدفاً في مسابقة رسمية بقميص برشلونة، إنه أصغر لاعب يبدأ أساسياً بقميص برشلونة في مسابقة رسمية، إنه أصغر لاعب يصنع ويسجل في نفس المباراة بقميص برشلونة في مسابقة رسمية، وأصغر لاعب يسجل بقميص برشلونة على ملعب الكامب نو، وأصغر لاعب في تاريخ برشلونة تمثيلاً للنادي في دوري أبطال أوروبا، وأصغر لاعب في تاريخ برشلونة يسجل هدفاً في مسابقة دوري أبطال أوروبا، وثاني أصغر لاعب تمثيلاً لمنتخب إسبانيا الأول وأصغر هداف في تاريخ المنتخب الإسباني الأول، إنه الأصغر في كل شيء، حتى في تسجيله هدفاً في مرمى ريال مدريد خلال القرن الحالي، حدث ذلك في كلاسيكو الدور الأول موسم 2020-2021.
الأرقام خير متحدث عن المواقف والأحداث، لكنه عيسى ميندي، يوم أن وضع ساقه أمامه وحدث ما حدث، وصرخ أنسو فاتي بصوت عالٍ، وغاب إثر تلك الصرخة سنة كاملة أو أكثر.
المميز في أنسو فاتي ليس هو تحديداً، إنما الصبر والمثابرة التي ورثها عن بيئته، عن أسرته، عن الحياة التي نشأ بها، وعن والده الذي تنازل عن حلمه ثم بكى في الكامب نو يوم أن حقق فاتي المعجزة، وعن رغبته المستمرة في العودة رغم كسر ساقه في السابق، وإصاباته المتكررة حالياً.
الحياة دائماً ما عادت أنسو فاتي، لكنه يعود دائماً وكأن شيئاً لم يكن، يعود كما لو كان يلعب أفضل من الأساسيين وأغلى من الذين أتوا بملايين، يلعب كأنه يحب هذه اللعبة حقاً، وفي كل ظهور له تشعر أن برشلونة قد وقع على كنز في صحراء بعيدة، ويوم أن أتى به إلى المدن؛ حسدوه عليه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.