تتلخص فكرة (المستدرَكات الحديثية) -التي شهدها العصر الذهبي في التصنيف- في جمع المؤلِّف للأحاديث النبوية -التي هي على شرط مؤلِّفٍ سَبَقَه وأسقطها فلم يخرجها في كتابه- فيجمعها المتأخِّر في مصنَّف جديد يدعى (المستدرَك)؛ بحيث يصير تكملةً لجهد المؤلِّف الأول، واستدراكاً على ما أسقطه بسبب العجز أو السهو أو النسيان. ومن أهم وأشهر هذه النوعية من المؤلَّفات: المستدرك للحاكم، وتلخيص المستدرك للذهبي، والإلزامات والتتبع للدارقطني.
تكرار التجارب بحذافيرها
كثير من الكيانات والتكتلات الإصلاحية لها ميلٌ جارف نحو اقتحام التجارب من بدايتها إلى منتهاها، دون الاستفادة من جهود السابقين ممن حازوا الخبرة في طريق الإصلاح والتربية والتعليم، قد يكون ذلك بسبب تضخم الذات والغرور والشعور المبالغ فيه بالنفس وإمكاناتها الفذة. ربما يكون ذلك حقاً من جهة ما؛ فبعض الأذكياء يغرُّه ذكاؤه ويصل به لمرحلة من التعالي على الاستفادة من تجارب الآخرين، فيخوض، ويضيّع من عمره سنوات وعقوداً في تجربة فاشلة -أو حتى مفضولة- كان يمكنه استثمار عمره الضائع فيها لو تواضع واستفاد من سيرة ذاتية لأحد الرواد في المجال، فيستدرك على خبرته ويبني عليها، ويتجنب الأخطاء نفسها التي وقع فيها، فيزيد عمراً على عمره، ونجاحاً على نجاحه.
إن السير في الحقل الإصلاحي والتربوي -والاجتماعي بصورة عامة- بروح (المستدرَكات) بات من الأمور الملحّة، لا سيما في هذا العصر الذي دُوِّنت فيه التجارب بأكثر من طريقة، مسموعة ومقروءة ومرئية، وصار من الغباء أن يستهلك الإنسان عمره القصير في تكرار تجارب الآخرين بحذافيرها، والوقوع في الأخطاء نفسها التي وقعوا فيها، ثم انتظار نتائج مختلفة، لاسيما وقد قصر الزمان، وزادت التكاليف، وصارت الواجبات أكثر من الأوقات.
فكيف لو رفع المربّون والمصلحون جميعاً راية الاستدراك، فصرنا كلنا مستدرِكين؛ للجهود العلمية، والإصلاحية، والتربوية، والفكرية، والثقافية… لمن سبقونا؛ فنبني على جهدهم، ونضيف تجاربهم إلى تجربتنا لإثرائها وإنمائها، ولا نضيع أعمارنا في استئنافات كثيرة، تفنى فيها الأعمار، وتتسطح فيها الآثار، بل نغوص في عمق التجارب ونطورها ونستدرك عليها، فنقوِّم أخطاءها، ونعمّق آثارها، ولنركز -من جانب آخر- استئنافاتنا على غير المسبوق إليه، الذي لم نجد فيه تجارب سابقة نبني عليها، لنكون فيه من الرواد الذين يتيحون الفرصة للأجيال القادمة ليستدركوا على تجربتنا ويستفيدوا من ريادتنا!!
إن كثيراً من وسائل التغيير والإصلاح القديمة تحتاج إلى تحديث، إلا أن فئة من المصلحين المفترضين لا يزالون يراوحون مكانهم، ولا يستدركون على غيرهم، بل يفنون جهدهم في تكرار الأساليب التي جار عليها الزمان بالطريقة نفسها، ثم يتساءلون في دهشة: لماذا لا يتغير الناس؟!
إن الناس لم يتغيروا لأنهم لم يهتدوا بعدُ لـ(المستدركِين) الذين يفتشون في الأصول فينطلقون منها بروح العصر الذي يعيشون فيه، فيطورون التجارب، ويمتطون خيول التحديث، ولا يواجهون سلاحاً ذَرِّياً بسيف خشبي عتيق، وإنما يشيّدون صروحاً أعلى من صرح التحديث المعاصر ذاته، فيجمعون بين الأصل الثابت المبارك وبين الإبهار الخاطف للألباب.
تكرار التأليف في الموضوعات ذاتها
كثير من المؤلفين والكُتَّاب يكررون الأبحاث ذاتها، بالتفاصيل نفسها، حتى إنك لتعجب أحياناً من التطابق في عناوين الأبواب والفصول في مؤلَّفَيْن كانت المكتبة العربية والإسلامية في غنى عن تكرارهما، والاكتفاء بأحدهما عن الآخر، وصرف الجهد المبذول في الكتاب المتأخِّر لبحث قضية أخرى لم يتطرق إليها كاتب، أو حتى طرح القضية نفسها لكن من زاوية أخرى.
على المستدرِكين إعادة النظر في الكثير من الوسائل والأطروحات والقضايا التي استفرغ فيها مَنْ قبلهم وسعهم بلا طائل، فيدفنوا ما قُتِل بحثاً، ويغضوا الطرف عما عفى عليه الزمان من وسائل صارت مثاراً لسخرية الناس لا مشعلَ هداية أو توجيه أو تغيير، وتطوير ما يقبل التطوير منها، وابتكار أدوات ووسائل جديدة تناسب الاهتمامات المتعددة للبشر على اختلاف توجهاتهم وألوانهم وفئاتهم العمرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.