ما زال ملف الإخوان المسلمين في مصر مفتوحاً، وكيف يوصد وللجماعة تاريخ طويل من التفاعل بينها وبين النظام السياسي في مصر منذ تأسيسها عام 1928 وحتى اليوم. مر هذا التاريخ بأيام حالكة السواد، بعضها إبان الحقبة الملكية، وبعضها إبان الحقبة الناصرية، وأيام أخرى كان الإخوان فيها في حال انتعاش لن يتكرر، وكان ذلك في العام الذي تولى فيه الإخوان حكم مصر إبان عهد الرئيس الراحل محمد مرسي. بين هذا الضنك وذاك الرغد، كانت هناك فترات رمادية طويلة في كافة الحقب، التي يؤشر إليها عادة الكتَّاب المتخصصون في الشأن السياسي المصري في العصر الحديث بحكام مصر، بالإشارة إلى الحقبة الملكية أو الناصرية أو الساداتية أو المباركية أو حقبة الرئيس السيسي.
بعبارة أخرى، هل سيعود الإخوان مرة أخرى من حقبة السواد الحالي، التي أعقبت 30 يونيو 2013 في مصر واستمرت إلى اليوم، إلى الحقبة الرمادية كما كان الحال إبان حكم الرئيس السادات أو مبارك؟
السؤال الأخير كان ملحاً، ويتردد كثيراً منذ أحداث 30 يونيو 2013، وها هو قد عاد مرة أخرى، وقد حكمه عديد الظروف البيئية التي حدثت خلال الأشهر القليلة الماضية، والتي أهمها:
– جمود أعمال العنف السياسي، الذي استشرى عقب فض اعتصام رابعة العدوية في 14 أغسطس 2013، وهو العنف الذي راح ضحيته العشرات، وكان بعض هؤلاء من رموز النظام السياسي، ولم تبرئ الجماعة نفسها من بعض تلك الأعمال التي شارك فيها تنظيم داعش.
– هيمنة النظام السياسي القائم عقب 30 يونيو 2013 على ناصية القرار في الداخل والخارج، وذلك بعد سنوات من الفترة الانتقالية التي تولى فيها الرئيس المؤقت عدلي منصور مقاليد الحكم، ما تمثل في مساندة عربية عامة، ومساندة بلدان الخليج على وجه الخصوص، لا سيما السعودية والإمارات، ودون قطر، وكذا بعض بلدان العالم كروسيا للنظام القائم في مصر. وقد تواكبت تلك المساندة مع تقوية ذراع نظام 30 يونيو داخلياً عبر رأس ماله الشعبي الكبير في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين.
– حدوث حالة من التشتت الإخواني الضخم، والخلافات الجسيمة بين قيادات الجماعة، سواء بين من هم في خارج مصر ومن هم في داخلها. وبين السجناء من قيادات الجماعة في السجون المصرية ومطلقي السراح، وبين إخوان تركيا وإخوان بريطانيا. كل ذلك كان بسبب الصراع حول ملفات كثيرة، منها قيادة دفة الحكم في الجماعة، أو إدارة محافظها المالية الكبيرة، أو الموقف من العنف ضد الدولة المصرية بين مؤيد لبقائه ومعارض لاستمراره.
– مرور الدولة في مصر بظروف اقتصادية صعبة ارتبطت بارتفاع معدلات الفقر، وتخفيض قيمة العملة المحلية، وارتفاع معدلات التضخم، والعجز الكبير في الموازنة العامة، وكبر حجم الدينين، الداخلي والخارجي، وقد ارتبط كل ما سبق بأسباب بعضها داخلي متصل بسوء التقدير وإدارة الأولويات، وبعضها خارجي متصل بظروف وباء كوفيد-19، ثم بالحرب الروسية الأوكرانية. كل ذلك جعل الدولة في حالة رغبة كبيرة في التفرغ لحل الأزمة الاقتصادية بهدوء، ودون إثارة إشاعات، أو بلبلة إعلامية كتلك التي اعتادت "أذرع الإخوان الإلكترونية" إدارتها بسوء نية واضح.
– سيادة مناخ من الانفتاح النسبي في ملف الحريات، صحيح أن هناك العديد والعديد من سجناء الرأي ما زالوا قيد الاحتجاز، سواء بالسجن أو بالحبس الاحتياطي، إلا أن الأسابيع الماضية شهدت قدراً من الانفراج بإعلان نظام 30 يونيو عن العام 2022 باعتباره عام إعلان استراتيجية حقوق الإنسان، وإدارة حوار وطني بين المعارضة المدنية والسلطة، بما يُفوّت الرغبة على الجماعة في "الصيد المتكرر في الماء العكر، وتسخين منظمات حقوق الإنسان الأجنبية والقوى الدولية على الدولة المصرية".
– تفتيت مصر لأكبر القوى الداعمة في الخارج لجماعة الإخوان المسلمين، وذلك من خلال المصالحة مع قطر التي دشنت مؤخراً بزيارة أمير قطر إلى مصر في 24 يونيو الماضي، واللقاءات العديدة التي جمعت مسئولين أمنيين مصريين وأتراك في القاهرة وإسطنبول منذ يونيو 2021، وتصريحات قادة تركيا للمصالحة، وكان آخرها تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 18 أغسطس 2022 بأن "الشعب المصري شعب شقيق، ولا يمكن أن تكون تركيا في حالة خصام معه". كل ما سبق أدى إلى حالة من الاهتزاز الكبير الذي أدى لتصدع تماسك قيادات الجماعة ونشطائها العاملين -على تصدعهم أصلاً- في كل من قطر وتركيا وبريطانيا ضد نظام 30 يونيو منذ عدة سنوات.
كل ما سبق منح قدراً من الثقة للدولة المصرية في عدم الخشية من فتح أي حوار من أي نوع بشأن جماعة الإخوان المسلمين، إضافة -كما سبق القول- لرغبتها في التفرغ لحل قضايا اقتصادية واجتماعية باتت ملحة.
في هذا السياق، تردد كثيراً من عديد المصادر الصحفية، دون أن يحدث أي نفي من كافة الأطراف الفاعلة، عن تدخل خليجي، وتحديداً سعودي إبان زيارة بن سلمان الأخيرة لمصر، لحلحلة هذا الملف، بغية قبول مصر بصيغة ما تتضمن تجميد الوضع الشائك بين الجماعة والدولة.
وقد ارتبط هذا الموقف برغبة المملكة -التي تسعى لكبح النفوذ الإقليمي للإمارات، الساعية حسب ذات المصادر لحلحلة هذا الملف أيضاً- لإثبات أنها رمانة معادلات التسوية بين فرقاء المنطقة على مستويات عدة في مصر والعراق واليمن وغيرها، خاصة وأن لها صوتاً مسموعاً لدى المصريين، لا سيما وأن هؤلاء هالتهم أيضاً سياسة الإمارات تجاه إسرائيل والجنوب اليمني وإثيوبيا.
وعلى افتراض صحة ذلك، فالمؤكد أن هذا الأمر لن يخرج بعيداً عن السيناريوهات الأربعة التالية:
الأول: الحديث عن مصالحة شاملة مع الإخوان تضمن عودة الجماعة كما كان الحال قبل 30 يونيو 2013، بما يشمل ذلك تداخلهم في العمل السياسي.
الثاني: القبول بعودة الجماعة مع عدم الاعتراف بوجودهم سياسياً بشكل رسمي، وذلك على غرار الوضع الذي كان قائماً إبان حقبة مبارك.
الثالث: الموافقة بعودة الجماعة كجماعة دعوية فقط، لا شأن لها بالعمل السياسي على الإطلاق، بمعنى السماح لأفرادها بممارسة أية أنشطة اجتماعية أو دينية، دون السياسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
الرابع: الاتفاق على عودة أفراد الجماعة لممارسة كافة أنشطتهم كمصريين ووفقاً للدستور، بما في ذلك النشاط السياسي من داخل الأحزاب السياسية المدنية، وبشكل لا يتيح لهم أية سيطرة من أي نوع على أي حزب قائم، على عكس ما فعلته الجماعة مع حزب العمل الاشتراكي عقب انتخابات 1987. وربما يستثنى من ممارسة العمل السياسي قادة الجماعة من الصف الأول.
وعامة، فإن كل ما سبق من صيغ، من المؤكد أنها ستتضمن العفو عن العقوبات التي يقضيها قادة الجماعة في السجون، وإقرار الجماعة بنبذ العنف، والإعلان عن قبولهم بدستور 2012 المعدل عقب 30 يونيو 2013. وفي جميع الأحوال يُعتقد أن أياً من الصيغ الأربع سيتضمن إقرار نظام 30 يونيو 2013 لتفعيل المادة 241 من الدستور الحالي فيما يقره من سن قانون العدالة الانتقالية، التي قد تتضمن العفو ودفع غرامات وربما محاكمات طبيعية لبعض المتهمين من أعضاء الجماعة، الذين أقروا بجرائمهم. والأرجح هنا أن يبقى في جميع الأحوال (باستثناء السيناريو الأول) القرار الذي أقرته الحكومة المصرية في 25 ديسمبر 2013 باعتبار جماعة الإخوان جماعة إرهابية. كما يُعتقد أن كل ما سبق سيتضمن حتماً انفتاحاً من قبل السلطة على قوى المعارضة المدنية، حتى لا تقوم للجماعة قائمة حال أي استحقاق لتداول سلمي للسلطة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.