من يعرف نجيب ميقاتي في السياسة والتوازنات، يدرك أن الرجل متمرس ولاعب صف أول في المبارزات السياسية، يدور في الساحة وظهره مسنود لشقيقه الذي يرتب كل أحجار الدومينو ويحسن اللعب في الفراغات والفرص، وميقاتي اليوم بات عمق الدولة العميقة برباعيتها المتكاتفة، أي إنه يشكل لاعباً أساسياً في معركة "لعبة 400" الشعبية مع وليد جنبلاط وسليمان فرنجية ودرة التاج نبيه بري، وهؤلاء اليوم هم عمود النظام وحماة الطائف، مع غياب اللاعب الذي لم يحالفه الحظ، أي سعد الحريري.
ومن يعرف نجيب ميقاتي يدرك أنه كما وصفه جبران باسيل منذ أسابيع "مغيطة"، يدور حيث تدور الظروف والتحولات والتحديات، ومرونته العالية ونفسه الطويل أتاحت له أن يكون قادراً على جمع رضا حزب الله ومن خلفهم الإيرانيين، وعند مرحلة ما قبول بشار الأسد، واندفاعة إيمانويل ماكرون وأذنه اللبنانية برنار إيمييه، وغض طرف إدارة جو بايدن، والتي ألزمت التفاصيل اللبنانية لفرنسا ومصر، وهو يحاول الإغارة على خصوم محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، لكن غارات إعلامية سرعان ما تبددها اجتماعات المساء مع الخليلين، والرجل يقول بالسر للأتراك والقطريين ما لا يقوله في العلن.
وهو حريص على عدم الالتصاق بأي طرف، كي لا يلبي أياً من مطالبهم، أو ينفذ أياً من دفاتر شروطهم، وترجمتها الفعلية أنه مع المقاومة والسيادة في آن واحد ومع أوروبا وتجربتها الإنسانية، وفي الوقت نفسه ينادي بإعادة النازحين السوريين دون ضمانات إنسانية تُذكر.
هذه المطالعة مردها إلى أمر رئيسي، لا يمكن القفز فوقه أبداً في يوميات التشبيك السياسي اللبناني والالتفاف على كل الأطراف في آنٍ واحد، وهذا الفعل يتقنه الرئيس ميقاتي أكثر من غيره منذ دخوله حلبة السياسة مطلع القرن الحالي.
مؤخراً فتح ميقاتي معركة إعادة النازح السوري إلى بلاده انطلاقاً من فكرة تقول إن النازح السوري يكلف الدولة مئات الملايين نتيجة دعم الدولة لبعض القطاعات كالقمح والخبز والمواد الغذائية، وهذه المعركة يسعى فيها ميقاتي لضرب عصفورين بحجر واحد؛ الضغط على الأوروبيين والمجتمع الدولي بملفي المساعدات وتخفيض شروط صندوق النقد الدولي، فيما الحجر الآخر يرتبط بحسابات ميقاتي السورية والمسيحية، والتي تعتبر مدخلاً دائماً للبقاء في السرايا الحكومي.
والحدث الثاني كان باستقبال مرفأ طرابلس لباخرة قمح وطحين مسروق من أوكرانيا جرى تحميلها في عبر شركة سورية، فرضت عليها واشنطن عقوبات ضمن قيصر، وجرى احتجازها ليومين بناءً على طلب أوكراني تبلغته حكومة تصريف الأعمال عبر السفارة الأوكرانية في بيروت، لكن سرعان ما جرى إطلاقها وتذويب الشمع الأحمر عنها، فيما دوائر دبلوماسية غربية تحمل الحكومة، ومن على رأسها، مسؤولية خرق قانون قيصر لمغازلة الأسد وحلفائه.
أما الخطوة الثالثة، وهي مسعى ميقاتي لسحب بساط التمثيل السني من يد منافسيه، صحيح أن الرجل بات خارج البرلمان انطلاقاً من قناعة لديه أن "السياسة من فوق أوفر من تحت"، إلا أن الرجل طموح في تكوين كتلة تنسق معه في استحقاقات متنوعة قادمة ومنتظرة أهمها انتخابات رئيس الجمهورية.
لذا، فإن الرجل جمع نحو 12 نائباً سنياً من خارج نادي النواب التغييريين بغية التنسيق معهم في استحقاق الرئاسة وعلى مقربة من موعد دعوة مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان لجمع النواب للتشاور معهم حول الانتخابات الرئاسية، وبعض من شارك في هذا "الغداء الميقاتي" خرج بانطباع واحد هو أن الرجل يفضل تشكيل كتلة سنية بالتشاور معه ومع الحريري، والذي لا تزال لمساته حاضرة منذ مدة، خاصة أن الأخير سهَّل وصول عدد مهم من هؤلاء النواب.
لذا، فإن الالتفاف الميقاتي مردُّه أن الرجل يحرك كل الأوراق لعودته على رأس حكومة ما بعد العهد في حال وصل فرنجية (يبدو احتمالا ضعيفاً)، أما في حال نجحت باريس في إيصال مرشحها (يحكى عن رجل الأعمال سليم إده)، فالمتاح يكون عودة بدعم كتلة سنية صلبة قوامها من 12 إلى 14 نائباً سنياً، منعاً لوصول أي تكنوقراط على رأس السرايا، واستكمال سياسة الكوما والتخدير في موقع الرئاسة الثالثة والتي قُدر لها أن تذوب سلطتها منذ اغتيال رفيق الحريري إلى هذا اليوم، وتستكمل اليوم عبر إعادة تعويم تسوية الـ2016 والإتيان بشريك جديد، لتصبح مربعاً بدلاً من مثلث.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.