في الأيام القليلة الماضية قامت السيدة نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأمريكي، بأخطر زيارة لها في تاريخ العلاقات الأمريكية الصينية، بزيارتها تايوان في إطار جولة آسيوية شملت اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا. خطورة الزيارة تكمن في توقيتها المتزامن مع التصعيد والتوتر المتبادلين بين القوتين العظميين، وفي ظل الحرب الدائرة رحاها بين روسيا الحليف الأول للصين وأوكرانيا التي تدعمها الولايات المتحدة.
ومن دلالات خطورة هذه الزيارة المثيرة للجدل، أن رافقتها عدة تأويلات وتهديدات ونداءات.
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، نصح نانسي بيلوسي بعدم زيارة تايوان قائلاً: "إن الزيارة ستزيد الطين بلة فقط، وإن الهدف من تدخّل نانسي بيلوسي في قضية تايوان هو خلق المشاكل وكسب المال فقط".
أما المتحدث باسم البيت الأبيض للقضايا الاستراتيجية، فقد ذكر أن من حق رئيسة مجلس النواب الأمريكي أن تزور تايوان، لكنه رجح أن تكون الصين في حالة "تموضع وتأهب" لاستعراض قوتها العسكرية حول تايوان في حال إتمام الزيارة، استعراض القوة ذلك ربما يتخلله إطلاق صواريخ في مضيق تايوان أو حول تايوان، وهو ما جرى بالفعل.
أما بكين فترى الزيارة استفزازاً جديداً تقوم به الولايات المتحدة، وأكدت وزارة الدفاع الصينية جاهزيتها وقالت إنها "لن تقف مكتوفة اليدين" إذا قامت رئيسة مجلس النواب الأمريكي بزيارة تايوان، لأنها بذلك تنتهك مبدأ "الصين الواحدة" وبنود البيانات الثلاثة المشتركة بين الصين والولايات المتحدة.
أما الرئيس الصيني فقد دعا صراحة إلى عدم اللعب بالنار بشأن تايوان وقال: "إن من يلعبون بالنار سيحرقون أنفسهم، وآمل أن يدرك الجانب الأمريكي تماماً هذا الأمر".
فمن هي نانسي بيلوسي وماذا تحمل في حقيبتها الدبلوماسية؟
نانسي بيلوسي هي الفتاة الوحيدة والأصغر بين سبعة أطفال لعائلة أمريكية من أصول إيطالية، وُلدت أمها في "كامبوباسو" بجنوب إيطاليا، أما والدها فأصوله إيطالية تمتد إلى جنوى والبندقية.
نانسي بيلوسي سياسية أمريكية، وكانت من أبرز معارضي الحرب على العراق، وإدارة جورج بوش الابن بشكل عام. لعبت دوراً فعالاً في إصدار العديد من مشاريع القوانين الهامة مثل قانون "الرعاية الصحية الأمريكية"، وقانون "الانتعاش وإعادة الاستثمار الأمريكي" لعام 2009، وقانون "الإعفاء الضريبي" لعام 2010.
تعد نانسي بيلوسي أول امرأة في تاريخ الولايات المتحدة تشغل منصب رئيس مجلس النواب الأمريكي، وحصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة برانديز، كما حصلت على جائزة الشخصية الشجاعة عام 2019.
وحتى نجيب عن السؤال الذي طرحناه أعلاه، فإنه لا بد أن نأتي على مقارنة سريعة بين هذا التصعيد المتسارع الخطى، وتصعيد آخر مماثل من جانب الإدارة الأمريكية السابقة مع دولة آسيوية أيضاً، وأعني بهذه المقارنة ما جرى بين ترامب ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ.
وصل التصعيد الأخير بين بيونغ يانغ وواشنطن إلى حد التهديدات الكلامية المتبادلة (مثلما يحدث الآن وربما أكثر من ذلك)، بعد أن نفذت كوريا الشمالية تجربة إطلاق صاروخ باليستي يمكنه أن يصل إلى أجزاء من الولايات المتحدة الأمريكية، ففي الوقت الذى يرى فيه باحثون ومؤرخون من كوريا الشمالية أن زعيمهم ورئيسهم أبعد ما يكون عن الجنون، بل إن ترامب هو الشخص الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. لكن ليس ترامب وحده هو المتهور في السياسة الأمريكية، السيناتور الجمهوري الراحل جون ماكين كان يصف الزعيم الكوري، كيم جونغ أون، وقتها بالـ"فتى السمين الأخرق".
ورغم كل التهديدات والتراشق الكلامي والتأهب لدرجات الخطر القصوى التي أعلنها كلا البلدين إذ ذاك بما يصور أن حرباً نووية وشيكة ستندلع بينهما، وستقضي على الأخضر واليابس بل تهدد بفناء البشر والعالم بأجمعه، فإن أون كان يخطط في واقع الأمر لاستنزاف الإدارة الأمريكية اقتصادياً ومعنوياً لا أكثر.
ومن دلالات هذه الحقيقة الموجعة للإدارة الأمريكية، أن كوريا الشمالية هددت بالانسحاب من المعاهدة الدولية في عام 1985، في خطوة منها لمواجهة الضغط الذي تتعرض له من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان. وفي عام 1993 نفذت التهديد بالفعل، وقد نجحت وقتها الإدارة الأمريكية في التوصل إلى حل سلمي للأزمة تلتزم فيه كوريا الشمالية بتجميد برنامجها النووي مقابل أموال توفرها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية لسد حاجتها للطاقة.
إلا أنها أعلنت في عام 2003 انسحابها من الالتزام بالمعاهدة إلى أن تمكنت الولايات المتحدة في عام 2005، بعد محاولات مستميتة في مباحثاتها مع كوريا الشمالية، من إصدار إعلان بكين لتسوية الأزمة والذي تضمن عدداً من المبادئ، منها التزام كوريا الشمالية بتجميد برنامجها النووي مقابل ضمانات أمنية واقتصادية، وبعد يومين أعلنت كوريا تخليها عن الالتزام والاتفاق، وتتابعت هذه المتوالية بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية.
أما في المثال التايواني الراهن، فإن دور "الفتى السمين الأخرق" يمثله هنا الولايات المتحدة، التي تقوم بإشعال الفتنة واختلاق المشاكل العالمية كما يزعم ترامب الآن.
رسائل نانسي بيلوسي
تايوان، البالغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، تعيش تحت تهديد دائم من غزو صيني محتمل، لأن الصين تعتبر الجزيرة جزءاً أصيلاً من أراضيها، في الوقت الذي تتمسك فيه تايوان بسيادتها واستقلاليتها. ومما يزيد الأخيرة صلابة أنها وجدت في الولايات المتحدة شريكاً اقتصادياً وسياسياً يمكِّنها من مواجهة التهديد الصيني، ولقد أعلنت رئيسة تايوان عن ذلك صراحة، وأفصحت عن التخطيط للتعاون بين الحرس الوطني الأمريكي والجيش التايواني.
بالعودة إلى الزيارة الخطيرة، ذكرت نانسي بيلوسي أنها تأتي في إطار جولة آسيوية تقوم بها لمناقشة الطريقة التي يمكن بها تعزيز القيم والمصالح المشتركة مع عدة دول، منها سنغافورة واليابان، في مجالات الأمن والسلام والنمو الاقتصادي والتجارة ومواجهة جائحة كورونا وأزمة المناخ، وحقوق الإنسان والحوكمة والديمقراطية، إلا أنها لم تذكر تايوان بشيء ولم تعرض ما تخبئه في حقيبتها.
الزيارة في هذا التوقيت بالتحديد، أعني به توقيت الحرب الروسية الأوكرانية، لها عدة معانٍ ودلالات تحاول أن توصلها نانسي بيلوسي إلى القيادة الصينية والتايوانية وإلى المجتمع الدولي، وهي:
1. رسالة إلى القيادة الصينية أولاً، وهي أن الولايات المتحدة الأمريكية موجودة وحاضرة في المشهد السياسي الدولي، وأنها قادرة على حماية تايوان معنوياً وعسكرياً.
2. رسالة دعم معنوي وسياسي إلى القيادة التايوانية تفيد بأن الولايات المتحدة ستدافع عن سيادة تايوان ولن تتخلى عنها في حال وقع العدوان الصيني المحتمل.
.3 الرسالة الثالثة وهي رسالة إلى المجتمع الدولي، تؤكد فيها أن الولايات المتحدة هي الشرطي الأول والأوحد للعالم، القادر على فرض النظام وفرض قيم الأمن والسلم الدوليَّين.
من الزاوية المعاكسة، لا يوجد ما يمنع القول إن الولايات المتحدة تحاول أن تدفع الصين إلي اتخاذ الخطوة العسكرية، ببدء العدوان على تايوان ومحاولة ضمّها لأراضيها، وإذا تحقق ذلك فإن نقطة جديدة ستضاف لرصيد الولايات المتحدة في دفع القوى العظمى إلى الهاوية والنهاية، فلا أحد يعلم متى تنتهي هذه الحرب- إن هي وقعت- كما هو الحال في الأراضي الأوكرانية التي لا تزال سحائب الدخان تغطيها. وكل هذا يصب في صالح الولايات المتحدة بقدرتها الفائقة على استعمال أدوات القوة الناعمة وتحريكها دون أن تكلف نفسها طلقة واحدة. لكن السؤال المطروح هو: هل هذه السيناريوهات والاستراتيجيات المتوقعة من الولايات المتحدة ستندفع إليها الصين من غير رؤية أو رويّة، أم أن لدى الرئيس الصيني شي جين بينغ، تخطيطاً آخر وفرضيات أخرى توجع الاثنين معاً: الولايات المتحدة والقيادة التايوانية؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.