تشير التقارير والإحصاءات الواردة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري إلى أن أكثر من 30 مليون مصري تحت مستوى خط الفقر. لكن يرى العديد من الخبراء والاقتصاديين، أنه لو تمَّ حساب معدلات الفقر وفق المؤشر المعتمد من البنك الدولي، فإن خط الفقر هنا سيرتفع ليسحق تحته أكثر من 50 مليون مصري، أي 60% من إجمالي الشعب المصري.
اكتشاف مظاهر الفقر في مصر لا يحتاج عناء البحث ولا مشقة التحليل والدراسة، ورغم ذلك، ففي دراسة للمنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة "دراية"، أشار إلى أنه حتى عام 2014 كان يعيش نحو 14 مليون مواطن مصري في المناطق العشوائية، فيما ذهبت دراسات أخرى إلى أن الرقم يتجاوز 20 مليوناً، منهم 1.7 مليون نسمة يقطنون 357 منطقة غير آمنة. يبدو أن هذه الأرقام لا تتعارض مع تعليقات الرئيس عبد الفتاح السيسي الأخيرة عن الفقر في مصر؛ إذ أشار في مؤتمر للشباب عُقد في شباط/ فبراير إلى أن مصر بلد فقير للغاية. وقال "ألم يخبرك أحد أنك فقير للغاية؟ إذن دعني أخبرك أننا فقراء جدّاً".
لكن ما يتعارض مع أرقام الفقر وسياسات الإفقار هو استمرار نشاط قطاع العقارات وازدهاره على الرغم من تدهور الاقتصاد المصري، وكذا ما تشهده مصر من بناء مدن جديدة مُسوّرة للأثرياء.
على سبيل المثال، لم يعد الساحل الشمالي بمصر مجرد منطقة ساحلية أو "مصيف" يذهب إليه الراغبون في الهروب من درجة الحرارة الشديدة في فصل الصيف، لكنه أصبح موقعاً لطبقة اجتماعية لها هوية خاصة، وإن تطرفنا قلنا "شعب جديد" يتحدث العربية برداءة بينما يفصح لسانه في الإنجليزية.
مجتمع لا يشبه أغلبية الشعب المصري التي تتساءل: من أنتم؟
في مجتمع الساحل الشمالي حالة من البحث الحثيث عن الجذور الأرستقراطيّة، النسب العريق والأصل الشريف. تلك الجذور لا تعنى شيئاً سوى إثبات أن الجد الأكبر كان من الصفوة، كان فاحش الثراء وأننا لسنا "محدثي نعمة".
في طرقات الساحل الشمالي ومدنه المسوّرة، كل شيء ملصق عليه ضمنياً للأثرياء فقط، حيث يبلغ سعر شاليه لا تتجاوز مساحته 50 متراً في إحدى القرى السياحية الشهيرة نحو 4.5 مليون جنيه تقريباً. وتصل عروض الإقامة في أحد الفنادق لمدة أسبوع لشخصين بالغين وشخصين أقل من سن البلوغ إلى مليون جنيه، مع دعوات للمسارعة بالحجز، قبل امتلاء الفندق.
كوميونتي الساحل الشمالي
الضمانات المالية وحدها ليست كافية للانضمام لمجتمع الساحل الشمالي أو "الكوميونتي" التي تتم رسمياً عبر شراء الفيلا أو الشاليه. فهناك اعتبارات اجتماعية وتعليمية ونفسية عدة باتت تتحكم في عمليات البيع والشراء.
صار من غير المقبول وجود المنتقبات والملتحين في "كوميونتي الساحل"، فهم يرتدون الأبيض في غير أيام حفلات عمرو دياب، وربما لا يفقهون سمعاً لموسيقى روبي، أو الفنانة جينيفر لوبيز.
لا أتوسل بكلماتي هنا لفتح أبواب مدن الساحل الفاضلة لقوافل دعوية من وزارة الأوقاف، ولا أطالب بفتح حدود المنتجعات الأنيقة أمام طبقات الشعب العاملة من باب العدالة الاجتماعية والمساواة الشعبية، لعلمي بأن عدم المساواة في توزيع الثروات ليست بالسمة الجديدة على الدولة المصرية؛ حيث يُعدّ تركّز الثروات في أيدي عدد قليل من العائلات استمراراً منطقيّاً لسياسة الباب المفتوح التي مهّد لها أنور السادات. كلماتي هنا لسؤال آني: لماذا تبارك الدولة اليوم والآن، نمط مجتمع ومواطني الساحل؟
يبدو أن الدولة ترى في مجتمع الساحل، شعبها المختار؛ مواطنين بثقافة جديدة، لا يهتمون بالسياسة، غارقين في الاستهلاك والسعي لتحقيق الذات لبناء ناجح، يمكنهم من شراء كل ما يرغبون؛ لذلك، تنشئ الدولة قصوراً رئاسية ومباني وزارية، وطرقاً سريعة تربط الساحل بالعاصمة الجديدة، بالإضافة إلى الجامعات الخاصة والمتاحف السياحية. لقد سئمت الدولة من الإصلاحات في المركز، وعلى مدى عقود فشلت في توجيه النمو الحضاري. فمصر كأغلب دول العالم تبنت نمط نيوليبرالي للحوكمة الحضرية. حيث عانت دول كثير مثلها، من تكدس المركز (أي المدن المركزية) بسبب هجرات أهل الريف للمدن بعد إنشاء الجمهوريات. فعلى سبيل المثال بعض الدول الآسيوية وتركيا، سمحت بهجرة الأغنياء إلى أطراف المدن وبناء مناطق سكنية مُسوّرة بعيدة عن المركز ومشاكله. لكن ما تتطرف فيه مصر، هو بناء مدن بأكملها بعيدة عن المركز القديم بمساعدة الدولة بهدف إنشاء مجتمعات جديدة، حديثة، لا تتشارك همومها مع المجتمع القديم.
مدن جهنمية
لقد أصبحت المدن القديمة اليوم أماكن جهنّمية، ومع تزايد مشاكل التلوث والفقر والاكتظاظ السكاني، تأخذ الدولة القرار الأسهل والهروب مع الأغنياء للأطراف. بالتالي يصبح الساحل مختبراً أنثروبولوجيّاً مدهشاً. هناك يعاد تدوير وتكديس وتحويل كل شيء، ثم يقدَّم بشكل جديد. حيث تتم عملية تهجين في الثقافة الجماهيرية والعادات اليومية للطبقات الوسطى الصاعدة، بالتزامن مع خطاب حول النقاء؛ لذلك تسعى الدولة لقتل كل محاولة للتفاعل الإنساني بين الشعب وما يتضمنه من طبقات اجتماعية.
الأحياء المتماسكة نسبيًاً مثل الزمالك ومصر الجديدة؛ يعاد فكها وتركيبها وفق مُخطط غير معلن لتفقد تماسكها؛ أي نسيجها الاجتماعي والعمراني، لتكون ممراً يربط بين العاصمة الإدارية، والعاصمة الصيفية على البحر (العلمين)، والمحاور الجديدة. وكما بدا منها حتى الآن؛ فهي لربط حزام المنتجعات في القاهرة الجديدة (مضافة إليه العاصمة الإدارية)، ومنتجعات الساحل والعين السخنة على البحر، وتتحول أطراف القاهرة بثقلها العمراني والتاريخي والاجتماعي إلى ممرات، ليتحقق العزل الكامل للقادرين على الهروب في تجمعات سكنية تبيع وجودها باعتبارها "سفينة نوح"؛ محاطة بالأسوار، والبوابات التي تضمن "نقاء الشعب الجديد"، كما تضمن الأحياء البديلة للعشوائيات (الأسمرات على سبيل المثال) باعتبارها "معازل طبقية"، صُممت ونُفذت بعيداً عن الحوار مع أصحابها وسكانها.
وهو ما يعني أنه ليس سكناً، بل إيواءً فخماً. إن عدم المساواة والطبقية المتطرفة ليس حَكْراً على مصر، فقد كان هذا اتجاهاً رئيساً في المجتمع الرأسمالي العالمي لما لا يقل عن قرنين من الزمن. لكن مرد هذا الاتجاه، على مصر، يعني أنَّ الثروة تنمو بمعدلٍ أسرع من نمو الدخل: فتزداد ثروات أصحاب الأصول في الساحل بأسرع من زيادة ثروة بائعي قوة العمل، ما يتسبب بحلقةٍ مفرغة تفضي حتماً إلى اقتصادٍ ريعي. وهذا لا يخفى عن الرئيس السيسي صانع السياسات في مصر. وعلماً بذلك، يعمل لاختراع وطن بكامل تفاصيله، دون الحاجة إلى تاريخ ممتد. فمن خلال مساحة بعيدة عن الفقراء، يطمح لبناء مجتمع متماثل أفراده مادياً، يربطهم شعور لهذه المدن الجديدة كما لو أنها وطن حقيقي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.