أصبحت الأخبار المتتالية عن الخسائر المالية الضخمة لشركة "Netflix" تثير استغراب الجميع وتعجبهم، ربما يعود ذلك إلى الشهرة والانتشار الواسع الذي تحققه شركة البث المرئي الأشهر في العالم، وافتراض أن حدوث ذلك يعني بالضرورة أن تحقق الشركة أرباحاً هائلة، وهي المغالطة التي يقع فيها كثير بسبب تعقد الأوضاع المالية لمثل هذه الشركات، وسياسة النمو والاستثمار التي تنتهجها.
وربما لن يصدق الكثير إذا أخبرناه، أن شركة Netflix بالرغم مما تحققه أعمالها الفنية من شهرة، وما تتسبب فيه من إثارة للجدل بسبب طبيعة الأعمال التي تُنتجها وتعرضها للمشاهدين، وعلى الرغم من عدد المشتركين الضخم الذي يصل إلى نحو 220 مليون مشترك، فقد ازدادت الضغوط النقدية عليها بعد خسارتها لنحو ثلث قيمتها السوقية، بما يعادل نحو 50 مليار دولار؛ لتحقق أسوأ عام لها على الإطلاق منذ تأسيسها عام 1997.
وقبل الحديث عن أسباب الخسائر المالية المتتالية لشركة "نتفليكس"، تعالوا قبلها نشاهد لمحة تاريخية بسيطة لبدايات شركة بث الأفلام الأشهر في العالم.
كيف بدأت نتفليكس؟
تأسست شركة "نتفليكس" في عام 1997، على يد "ريد هاستينغز" و"مارك راندولف"، وبدأت الشركة في كاليفورنيا كشركة تأجير الأفلام عبر الإنترنت.
في البداية، لم تكن خدمات "نتفليكس" متطورة كما هي عليه الآن، ولم تكن مشاهدة العروض بالطريقة السهلة التي عليها الآن، فأنت اليوم تجلس في منزلك وبين يديك الهاتف وتتصفح وتتنقل بين آلاف الأعمال الفنية المختلفة وتشاهد أكثر من فيلم أو جزءاً كاملاً من مسلسلك المفضل في نفس اليوم.
وعلى الرغم من أن خدمات "نتفليكس" التي قدمتها في البداية، قد نراها بسيطة مقارنة بما متاح لنا الآن، لكن بمقاييس تلك الفترة كانت تعد طفرة مهمة، سهلت على المستخدمين تأجير الأفلام، والاستغناء عن الانتظار في الطوابير، ودون الحاجة إلى زيارة المتجر للاستئجار أو الإرجاع، وبسعر أقل من بقية المتاجر.
كانت الخدمة تقدم عن طريق أن يقوم المستخدم بتصفح الأفلام الموجودة عبر الموقع الإلكتروني، ثم يختار الفيلم الذي يريد تأجيره ويتواصل عبر البريد الإلكتروني مع الشركة التي ترسل له الفيلم إلى منزله، وعندما ينتهي المستخدم من مشاهدة الفيلم يقدم من خلال الموقع الإلكتروني طلباً بإرجاعه، وتقوم الشركة بإرسال عنوان ليرسل الفيلم إليه، وفي معظم الأحيان يكون العنوان لمستخدم جديد يريد تأجير نفس الفيلم.
وفي إبريل 1998 أصبحت "نتفليكس" أكبر شركة على الإنترنت لشراء وتأجير أشرطة DVD، واستمر نشاطها في النمو بنفس الاستراتيجية التي تتبعها، عن طريق تقديم خدماتها عبر الإنترنت وإرسال الأشرطة للمستخدمين عبر البريد.
ومع مطلع الألفية الجديدة، أطلقت شركة البث الحي الصاعدة بسرعة تفوق سرعة رياح كاليفورنيا، النظام الذي سيقوم بتغيير قواعد لعبة الصناعة الترفيهية التقليدية.
وكان هذا نظام الاشتراك الشهري، الأمر الذي كان يبدو غريباً حينها، ويقوم على أن يحدد المشترك عدد الساعات التي سيستخدم فيها الخدمة، وعلى هذا الأساس يتم تحديد قيمة الاشتراك الذي سيدفعه، وتقوم بعدها الشركة بإرسال كل الأفلام التي يرغب المستخدم في مشاهدتها.
كانت الخطوة مخاطرة كبيرة وغير مأمونة العواقب، وراهن مؤسسا الشركة على المعادلة التي ستبني عليها الشركة سياستها في عالم الأعمال إلى اليوم، والتي تعتمد على قيمة اشتراك قليلة وعدد مشتركين كبير؛ مما يعني أرباحاً وإيرادات ضخمة.
الأمر برمّته كان تحدياً، وعملت الشركة على تكوين رابطة قوية بينها وبين المستخدم لتدفعه للاشتراك ثم التجديد بعد ذلك، وهو ما ستنجح فيه؛ حيث أطلقت الاشتراك مجانياً للشهر الأول، فكانت النتيجة أن 80% من المشتركين بالخدمة جدّدوا اشتراكاتهم في الشهر الذي يليه.
وتضاعف عدد المشتركين لديها كما ازدادت المبيعات بشكل ملحوظ، وفي عام 2006 بلغ عدد المشتركين أكثر من 6.5 مليون مشترك، وفي 2010 تضاعف العدد ووصل إلى 14 مليون مشترك، ووصلت قيمتها السوقية إلى 13 مليار دولار، قبل أن تبدأ في صنع المحتوى الخاص بها.
أرادت "نتفليكس" أن تقلل اعتمادها على الإنتاج الخاص بالشركات الأخرى، وفي عام 2011 بدأت في الاستثمار لصنع المحتوى الأصلي الخاص بها، وكانت البداية مع المسلسل الشهير "House Of Cards" الذي بدأ عرضه في 2013.
ومنذ ذلك الحين توسعت "نتفليكس" في إنتاج المحتوى الترفيهي، وأنتجت عددًا من أهم المسلسلات والأفلام والوثائقيات في الوقت الحالي، وأنفقت 15 مليار دولار، أكثر من منافسيها "Amazon" و"Hulu" و"HBO".
واستمرت شركة بث الفيديو في النمو السريع، إلى أن تحولت إلى كيان عملاق وأصبحت مهيمنة على سوق بث الفيديو عبر الإنترنت في جميع أنحاء العالم.
وهناك إحصائية دالة على الحجم المذهل لاستخدام منصة بث الفيديو الأشهر، تفيد بأن الشركة تستحوذ على 15% من حجم استخدام الإنترنت في العالم.
لماذا تخسر نتفليكس
كل هذا ولم نجب عن السؤال الأهم: لماذا تخسر نتفليكس؟
وربما بعد الحديث عن قصة نشأة وصعود الشركة والنجاح الضخم التي تحققه، أصبح الأمر أكثر غموضاً إذا تحدثنا عن الأداء المالي السيئ التي تحققه الشركة، والذي يعتبر الأسوأ على الإطلاق خلال آخر عشر سنوات من عمر المنصة.
في إبريل/نيسان 2022 انخفض سهم شركة البث الترفيهي الأشهر حول العالم بأكثر من 35% من قيمته، بعد إعلان الشركة نتائج أعمالها للربع الأول من نفس العام، كما فقدت 200 ألف مشترك خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، للمرة الأولى منذ عام 2011.
هذا الهبوط في أسهم "نتفليكس" أدى إلى محو ثلث قيمتها السوقية تقريباً بخسارة نحو 50 مليار دولار، خصوصاً مع إعلان "نتفليكس" أنها تتوقع خسارة المزيد من العملاء ما يصل إلى 2.5 مليون عميل في الربع الثاني من العام، لتسجل بذلك أسوأ عام لها على الإطلاق منذ تأسيسها عام 1997.
ويمكن تحديد أسباب هذا الهبوط، وأسباب وقوع كل هذه الخسائر المتتالية لهذه المنصة الضخمة في النقاط التالية:
الحرب الروسية الأوكرانية
انضمت "نتفليكس" إلى عدد كبير من الشركات الكبرى التي علقت خدماتها في روسيا، وقامت بقطع البث كجزء من العقوبات المفروضة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي للضغط على روسيا، مما أدى إلى خسارة نحو 700 ألف حساب في روسيا والذي أثر بشكل سلبي على أسهم وإيرادات الشركة.
رفع أسعار الاشتراك
مع بداية 2022 خسرت "نتفليكس" نحو 600 ألف مشترك في أمريكا وكندا بسبب الزيادة الأخيرة في الأسعار التي طبقتها على عملائها في أمريكا الشمالية، وقام كثير من المشتركين بإلغاء الاشتراك والانسحاب من الخدمة اعتراضاً على الزيادة.
فقدان المحتوى لصالح الشركات المنافسة
تمتلك "نتفليكس" مكتبة ضخمة ومتنوعة من الأعمال الفنية التي تنقسم ما بين: أفلام سينمائية، ومسلسلات درامية، وأفلام قصيرة وأفلام وثائقية، بكل اللغات الموجودة في العالم، ولكن جزءاً كبيراً من هذه المكتبة الفنية الضخمة التي تمنحها للمستخدمين، هو في الأساس أعمال فنية مأجورة من شركات الإنتاج المنافسة.
وأصبحت "نتفليكس" في الآونة الأخيرة تفقد جزءاً كبيراً من المحتوى الذي كانت تعرضه ويحظى بنسب مشاهدة عالية، لصالح شركات الإعلام العملاقة مثل "أبل"، و"أمازون" التي باتت تستغل هذا المحتوى في عرضه على منصات البث الخاصة بها.
وتحولت الشركات التي كانت تتعاون مع "نتفليكس" إلى منافسين يشكلون تهديداً وجودياً على الشركة الأمريكية، وأدت تلك الهجمات المتتالية التي تشنها الشركات المنافسة إلى إجبار نتفليكس على الاستثمار وضخ المليارات في إنشاء محتوى أصلي خاص بها.
وبسبب الاستراتيجية التي أصبحت تتبعها بإنفاق ميزانية ضخمة على إنتاج محتوى خاص بها، وتعزيز منصتها أمام المنافسين، اضطرت للجوء لسياسة نقدية تعتمد فيها على الاستدانة، والحصول على القروض عالية المخاطر، وهو ما زاد من سوء الوضع المالي للشركة، وجعلها أقل جاذبية للمستثمرين.
الصراع مع عمالقة الإنتاج الترفيهي
لم تعد "نتفليكس" تغرّد وحدها في عالم البث الحي كما اعتادت منذ بدايتها، وأصبح يوجد عدد كبير جداً من خدمات البث المتاحة والمنافسة للشركة الأمريكية، وتأتي على رأس هذه الشركات : "Hulu" و "HBO Max" و "Amazon Prime Video" ، و "Disney +" و "Apple TV" و "ESPN" .
وتمتلك كل منصة مجموعة مميزة من العروض والأفلام والمسلسلات الشهيرة التي يفضلها الجمهور على مختلف أذواقهم، وهذا يعني زيادة المنافسة وتقليل حصة "نتفليكس" من المشتركين في الأسواق.
وهناك صراع محتدم بين منصات الترفيه الأكبر في العالم، وتحاول كل منصة استقطاب المشاهدين ودفعهم إلى الاشتراك في الخدمة الخاصة بها، الأمر الذي يجعل هذه المنصات العملاقة تخصص ميزانية ضخمة لإنتاج أعمال فنية تنافس بها "نتفليكس، وتضخ كل واحدة منها مليارات الدولارات لتطوير منصتها للبث عبر الإنترنت.
سرقة الحسابات
تتسبب ظاهرة مشاركة كلمات مرور الحسابات بين المستخدمين، في زيادة الأزمة الاقتصادية التي تعانيها "نتفليكس"؛ حيث تخسر الكثير من المستخدمين الذين يستفيدون من الخدمة دون مقابل.
وقدرت الشركة بأن هناك أكثر من 100 مليون أسرة تتمتع بخدماتها دون أن تدفع رسوم الاشتراك، عبر استخدام كلمات السر من مشتركيها.
استراتيجية نتفليكس لتخطي الأزمة
ورغم الوضع الكارثي الذي تعيشه الشركة الأمريكية، فإنها ما زالت الشركة الأولى للبث الافتراضي حول العالم؛ حيث يبلغ عدد مشتركيها نحو 222 مليون مشترك.
واقترحت الشركة عدداً من الحلول لمواجهة أزمتها، منها إتاحة نموذج اشتراك أرخص من النموذج الحالي مدعوماً بوجود مواد إعلانية، والتصدي للاشتراكات غير القانونية ووضع خطة لمنعها، وإضافة منتجات رقمية جديدة، منها ألعاب الفيديو لجذب شريحة كبيرة من المستخدمين هواة ألعاب الفيديو، وعزمت الشركة العمل على بث المحتوى الرياضي في المستقبل، والتوسع في إنتاج ونشر أفلام وثائقية بلغات عديدة.
والأمر المؤكد أن شركة "نتفليكس" تواجه تحديات صعبة ضد مجموعة من المنافسين الأقوياء، في الوقت الذي تعاني فيه خسائر في المشتركين وهبوطاً في الأسهم وانخفاضاً في القيمة السوقية.
ولنرَ ونتابع خلال الفترة المقبلة، كيف ستتجاوز "نتفليكس" هذه الأزمة الكارثية، وما الخطوات التي ستتبعها لمحاولة البقاء على رأس شركات البث الافتراضي.
وفي النهاية ما يهمنا أكثر من أي شيء آخر، هو الخدمة المميزة التي نرغب في الحصول عليها، بأقل سعر مُمكن، وبالطبع قد تأتي المنافسة التي ذكرناها بين منصات البث الترفيهي في صالحنا.
فإذا كنت معتاداً على دفع قيمة اشتراك في إحدى هذه المنصات، فإنه من المتوقع أن تنخفض قيمة اشتراك المنصات في ظل سياسة المنافسة بينها، ومحاولة كل منصة جذب المستخدمين للاشتراك في خدماتها، وإذا كنت من هواة مشاهدة المحتوى المقرصن فإن هذه المنافسة ستتيح لك مشاهدة محتوى ضخم وشديد التنوع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.