جرت العادة أن تعلن المحكمة الدستورية عقب كل انتخابات عن إسقاط مقاعد بعض البرلمانيين، بعد النظر في الطعون المقدمة إليها، ويتم إعلان موعد إجراء الانتخابات الجزئية لملء هذه المقاعد.
الانتخابات الجزئية، التي تعتبر في الجوهر انتخابات إعادة لبعض المقاعد، كانت دائماً تحمل سمات معروفة، منها انخفاض كبير في نسبة المشاركة، وطغيان البعد الانتخابي على البعد السياسي، وعدم وجود رهان سياسي قوي من ورائها، يمكن أن يؤثر على موازين القوى التي أفرزتها الانتخابات العامة.
لكن إعلان المحكمة الدستورية إسقاط مقاعد الأربعة من برلمانيي أحزاب الأغلبية الحكومية هذه المرة، جاء في سياق سياسي واجتماعي ملتهب، محكوم بانتشار سريع لوسم: "عزيز أخنوش ارحل" (تجاوز المليون)، وتذمر كبير من أداء الحكومة، وعجزها عن اتخاذ إجراءات ناجعة لرفع المعاناة عن المواطنين بسبب ارتفاع الأسعار، وبشكل خاص ارتفاع أسعار المحروقات، وسط مزاج عام، صار مقتنعاً بوجود تضارب مصالح بين بعض وزراء الحكومة ولوبيات المصالح المستفيدة من ارتفاع أسعار المحروقات.
من هذه الجهة، اكتسبت هذه الانتخابات أهمية كبرى، كون كل فاعل سياسي يراهن عليها لدوافع مختلفة.
ماذا تعني الانتخابات لكل الأطراف هذه المرة؟
السلطة السياسية، ربما تكون هذه الانتخابات مفيدة لها من جهة كونها تقدم أرقاماً حقيقية تعكس مزاج الشارع من أداء الحكومة، وتُظهر حدود العلاقة بين الافتراضي (وسم أخنوش ارحل، على شبكات التواصل الاجتماعي) وبين الواقعي.
أما أحزاب الأغلبية الحكومية، فتريد من خلال هذه المحطة أن تثبت الحجة التي اعتمدت عليها في مواجهة الوسم، وكون جهات خارجية هي التي صنعته، وأنه مزيف ولا يمثل الواقع، كما كانت أساسية بالنسبة لها أيضا لحاجتها لإثبات وتجديد شرعيتها.
أحزاب المعارضة، وبشكل خاص العدالة والتنمية، سبق له أن أكد أنه لا يراهن على هذه الانتخابات، وأن مقعداً أو اثنين لا يمثلان بالنسبة إليه شيئاً في موازين القوى، لكنه في الجوهر، كان يطمح أن تؤكد نتائج الانتخابات الجزئية، ولو في دائرة واحدة، صدى الشارع الحانق من أداء الحكومة.
نتائج الانتخابات الجزئية، كما تم الإعلان عنها في وسائل الإعلام، لم تضف جديدا، فقد عاد البرلمانيون الذين أسقطتهم المحكمة الدستورية لدوائرهم، بما يعني فوز الأغلبية الحكومية، لكن، الجدل الذي صاحب هذه الانتخابات فتح قوساً جديداً في حقل السياسة بالمغرب، بعد أن شكك الأمين العام للعدالة والتنمية (عبد الإله بن كيران) في حياد بعض أعوان الإدارة ودعمهم غير المشروع لأحزاب الأغلبية، خصوصا في دائرة مكناس، إذ طالب العدالة والتنمية وزير الداخلية بتوضيح ارتفاع نسبة المشاركة في دائرة (الدخيسة) إلى 73%، في الوقت الذي لم تتجاوز نسب المشاركة في الدوائر الأخرى في العموم 10%، ملمحاً إلى حالة إغراق هذه الدائرة، بغية تحقيق نصر انتخابي لحزب رئيس الحكومة.
سجال بين الداخلية والعدالة والتنمية
وزارة الداخلية قرأت هذا الطلب باعتباره اتهاماً لها بممارسة التزوير لصالح حزب رئيس الحكومة السيد عزيز أخنوش، ولذلك أصدرت بلاغاً حاداً، تجاوز الحادثة، وتوجه رأساً إلى حزب الإسلاميين، متهمة إياه (دون تسمية الحزب ولا أمينه العام في البلاغ) بمحاولة ضرب مصداقية العملية الانتخابية، وواصفة تصريحات الأمين العام للحزب بـ"المغرضة"، التي تهدف إلى "إفساد هذه المحطة الانتخابية والتشكيك في مجرياتها بشكل ممنهج ومقصود". والمثير في بلاغ وزارة الداخلية، أنه شبَّه موقف الأمين العام للحزب بموقف الحزب من نتائج انتخابات الثامن من سبتمبر، واعتبر أن سلوك الحزب ورد فعله من نتائج الانتخابات يعكس "محاولته التغطية على فشله وإخفاقه في العملية الانتخابية".
رد الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، لم يتأخر، إذ اعتبر أن بلاغ وزارة الداخلية غير لائق، وأنه في الجوهر، يعكس وجود إرادة لمنع المواطنين من الكلام، وأنه كان على وزير الداخلية التريث وعدم التسرع، وأخذ وقته للنظر في الحيثية المقصود بالاتهام (ارتفاع نسبة المشاركة في دائرة الدخيسة وإغراق الأوراق بها) بدل الخروج من منطقة الحياد.
صراع في توقيت حساس
لا يهم كثيراً الدخول في تفاصيل الرد والرد المضاد، من الطرفين، لكن هذا الصراع، الذي جاء في توقيت جد حساس (قبيل عيد العرش بأيام، وفي خضم اشتداد التذمر من حكومة عزيز أخنوش ومخاوف من احتقان اجتماعي كبير)، يطرح كثيراً من الأسئلة عن مستقبل العلاقة بين الإسلاميين والسلطة في البلاد.
عملياً، يمكن أن نسجل أن سلوك الإسلاميين في المغرب يختلف بشكل كبير عن سلوك الإسلاميين في المشرق، بل حتى في تونس في التعامل مع مسألة إفساد العملية الديمقراطية، فالأسلوب الذي أدار به العدالة والتنمية هذا الصراع، تحيل بأن معركته ليست مطلقا مع الدولة، بل على العكس من ذلك، فقد حرص عبد الإله بن كيران، أن يستند إلى ما قاله الملك، من كونه أقسم على عدم عودة عهد إدريس البصري، ليؤكد أن العبث بالعملية الانتخابية فيه إضعاف للدولة، ويسير في الاتجاه المعاكس للإرادة الملكية.
على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل إن الحزب استعمل حجة ثانية، حتى يُبقي خط العلاقة مع الدولة مستقراً، لا يتجاوز منطقة النصح، إذ أكد أن الهدف من مشاركته في العملية الانتخابية ليس الوصول إلى الحكومة، ولا نيل السلطة، وإنما هو القيام بدوره في الوساطة بين المجتمع والدولة، وأن الدولة، إذا كانت لا ترغب في هذا الدور، فإن الحزب يمكنه أن يحل نفسه، ويعود أعضاؤه إلى بيوتهم، وأن ضعف الوساطة أو غيابها سيسرع لا محالة في الاحتكاك المباشر بين المجتمع والدولة.
السلطة تدعم الحكومة
سلوك السلطة السياسية، إلى الآن، يميل نحو دعم الحكومة، حتى وهي تدرك أن نسب التذمر منها في مستويات عالية، فقد انخرطت وكالة المغرب العربي للأنباء (وكالة مستقلة عن الحكومة وعن الأحزاب) في الانتصار لرئيس الحكومة ضد وسم (ارحل اخنوش)، واعتبرت أنه وسم مزيف يخدم مصالح أجنبية، ثم جاءت محطة الانتخابات الجزئية، وثبت ليس فقط من خلال نتائج العملية الانتخابية، ولكن أيضاً من خلال بلاغ وزارة الداخلية، أن رهان السلطة السياسية كان يركز على إثبات المسافة بين الافتراضي والواقعي، وأن المجتمع يدعم شرعية الحكومة، كما جاءت اللهجة القوية لبلاغ رئيس الحكومة ضد العدالة والتنمية، لتؤكد مزاج السلطة على الأقل في هذه المرحلة الحساسة، والذي يجنح إلى ضبط السلم الاجتماعي دون الاضطرار إلى التنقيص من شرعية الحكومة القائمة.
ثمة معطى آخر، يورده البعض، يتعلق بمعامل العدالة والتنمية في تفكير السلطة، وما إذا كانت ترفض في هذه اللحظة، أن تمنح أمينه العام أي فوز رمزي، يتكئ إليه ليثبت عودة الحزب لمرحلة الانتصارات، خصوصا وأن هذه هي أول انتخابات جزئية تجري في ولاية الأمين العام الجديد للحزب (عبد الإله بن كيران).
وثمة من يعتبر أن الأمر لا يخص شخص الأمين العام، وإنما يرتبط بموقف ظرفي من الإسلاميين، يتطلب كشطهم من الساحة السياسية، حتى لا تتأثر المعادلات الكبرى التي أقدم عليها المغرب عقب ولايتهم، ومن ذلك عودة العلاقة مع دول الخليج، وتقوية العلاقة مع إسرائيل.
العلاقة بين الإسلاميين والسلطة في المغرب
لكن في المحصلة، يبقى سؤال جدل العلاقة بين الإسلاميين والسلطة في المغرب بعيداً عن هذه اليقينيات غير المقنعة، ففي المغرب ليس ثمة ثابت في تدبير العلاقة بين الطرفين، وأن ما يحكمها في الجوهر هو التحولات التي تجري، وجدل المصالح الحيوية في الداخل والخارج.
الخط السياسي الذي يعتمده الإسلاميون في المغرب، وكذا الطبيعة السياسية للنظام، يجعل خيار الاستئصال والصراع الاحترابي أمراً بعيداً وغير مطروح، والمعادلات المعقدة التي دخل إليها المغرب، سواء لتحقيق كسب لقضية الوطنية أو لإعادة الدفء لعلاقاته مع دول الخليج، تجعل عودة الإسلاميين لمربع السلطة في هذه اللحظة خياراً صعباً.
لكن في المقابل، يطرح الاحتقان الاجتماعي، وتراجع المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالحالة الماكرواقتصادية (التوازنات المالية الكبرى للدولة)، ومتطلبات السلم الاجتماعي، وخشية تسبب سياسات الحكومة الحالية في تهديد السلم الاجتماعي، سؤال رهانات السلطة القادمة، وما إذا كانت ستضطر إلى إعادة سيناريو 25 سبتمبر/أيلول 2011، حين لم تجد غير الإسلاميين خياراً لتأمين الاستقرار.
ثمة آراء وازنة ترى أن قدرة الإسلاميين على القيام بهذا الدور، على الأقل في اللحظة الراهنة، صارت محدودة بسبب فقدانهم لكثير من شعبيتهم، لكن في المقابل، يشكل الفراغ السياسي، وعدم وجود فاعلين سياسيين أقوياء منافسين للإسلاميين، تهديداً لا تملك السلطة السياسية خيارات مفتوحة لمواجهته.
التقدير أن السلطة السياسية اليوم، لا تملك وجهة نظر واحدة في التعاطي مع الإسلاميين، وأنها مع الميل إلى استمرار سيناريو الحذف من الطاولة، تبقي على خطوط التواصل معهم، حتى تهيئ لسيناريو آخر، لا يشكل فيه الإسلاميون القوة الكبرى، بل القوة المشاركة، بوزن تمثيلي محدود، يقل بشكل كبير عما كان عليه في السابق.
الاعتقاد أن الصراع اليوم، بين وزارة الداخلية وبين العدالة والتنمية، يعكس من الطرفين، إرهاصات تشكل هذه الصيغة الجديدة، التي يعترضها مخاض صعب محفوف بكثير من التوجسات من الطرفين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.