في الطريق الواصل بين عاصمة الأرجنتين بيونيس آيرس ومدينة كوردوبا؛ ينتشر نبات البامباس المشهور في أمريكا الجنوبية على جانبي الطريق، فلا ترى غيره على مد بصرك، وبين ذلك النبات تختفي قرية صغيرة بتعداد سكاني لا يتجاوز 2500 شخص، قريةٌ تبعد عن الطريق الرئيسي ما يزيد على 40 كيلومتراً لا يعرف عنها إلا القليل ممن اعتادوا الطريق، وابتعدوا عن ضوضاء المدن، ولا يتجاوز أقصى طموح أحدهم أن ينجح محصول البرسيم لهذا الموسم، وأن تتكاثر البهائم وتزيد ثروته عما كانت عليه العام الماضي.
ولكن في نهاية شهر يناير/كانون الثاني في بداية الألفية الثانية وُلد جوليان ألفاريز، ليُكتب بالخط العريض على الطريق بعد مرور هذا اليوم بـ22 عاماً: أهلاً بكم في "كالشين أرض جوليان ألفاريز"، فالمدينة المجهولة للمحليين وجدت أخيراً ما تتفاخر به أمام العالم بأكمله.
طفولة بسيطة للاعب كبير
جوليان ألفاريز أو "العنكبوت" ابنٌ لسائق سيارة، ووالدته مدرّسة للصفوف الابتدائية. كانت نشأة تقليدية للغاية بالنسبة له، لم يكن مختلفاً عن أطفال قريته، خجول وطيب، كانت تلك الصفات التي وصفها به جيرانه في مقابلات أجروها مع الإعلام بعد شهرته، فما الذي يحول ذلك الطفل الهادئ إلى مفترس للأهداف أمام المرمى؟ استطاع أن يحرز مع ريفر بليت 54 هدفاً في 122 مباراة في أصعب القارات لعباً في العالم وأكثرها التحامات بدنية وصعوبة على المهاجمين، ويحصد جائزة أفضل لاعب في أمريكا الجنوبية، تلك الجائزة التي ارتبطت بأسماءٍ مثل مارادونا وبيليه ورونالدينهو ونيمار وتيفيز.
ألفاريز في نشأته كان مختلفاً عن جميع أقرانه من هواة ممارسة كرة القدم، كان واضحاً أنه سيكون له شأنٌ مختلف، لذلك قرر والده وضعه تحت وصاية أحد أصدقائه الذي امتلك مدرسة صغيرة لكرة القدم، فصقل موهبته حتى انتقل لأكاديمية كالتشين، وسرعان ما أصبح نجمها الأول والأخير، وأصبح ضمن أهم مواهب الأرجنتين في ذلك الوقت، ووصلت سمعته إلى جميع الكشافين والمدربين حولها.
كان التطور الطبيعي والتقليدي لموهبته هو ما حدث بعدها عندما دعاه ريال مدريد للمشاركة بقميص فريق الأعوام الأحد عشر في بطولة ودية للناشئين، واستطاع إحراز هدفين في 5 مباريات وصناعة هدف الفوز بالبطولة في النهائي في ملاعب فرعية في البرنابيو.
لكن قوانين استقطاب الناشئين حالت بينه وبين الإكمال في الفريق لأنه كان أقل من السن القانوني لضم الناشئين، وهو 13 عاماً، وأيضاً بسبب اشتراطهم أن ينتقل الأهل للإقامة هنالك في مدريد.
"كان ذلك حلماً أن يبقى هنالك".. كذلك عبّر الوالد في مقابلة مع صحيفة "جول"، ليقتنص الفرصة أخيراً ناديه المفضل ريفر بليت عندما وصل لعامه الخامس عشر، ليرسل له عرضاً يشمل مقعداً لدراسة اللغة الإنجليزية في الجامعة، بجانب الانضمام لفريق الشباب لديهم، وهو ما جعله يحزم أغراضه للانتقال إلى المدينة فور وصول العرض.
الانفجار الكبير
على مدار سنتين استطاع ألفاريز إحداث انفجار كبير في مستواه، فاستطاع تمثيل كل فئات منتخب الأرجنتين السنية حتى وصل لمجاورة نجمه المفضل ليونيل ميسي في التشكيل نفسه في المنتخب.
انضمام جوان كان في مرحلة تاريخية أيضاً لليفربليت، فمع وصوله شارك حتى ولو بشكل احتياطي أمام الغريم التقليدي بوكا جونيورز في نهائي الكوبا ليبارتدوس لأول مرة في التاريخ، النهائي الذي لُقب بنهائي القرن، واستطاع الفوز مع الفريق بذلك اللقب الذي خلد أسماء هذا الجيل في التاريخ، وكان هذا مبكراً جداً له، ولكنه استغل الفرصة وبدأت عاصفة الأهداف.
واستطاع تسجيل هدفٍ في نادي إندبيندينتي غريم ريفر في المدينة نفسها، وفي نهائي الكأس ومع أول لمسة له في المباراة بعد نزوله بديلاً.
ثم بعد العودة من الكورونا وفي بطولة كوبا ليبارتدورس أصيب ما يزيد على 20 لاعباً في ريفربليت بالكوفيد، وفقدهم في مباراة أيقونية لن تنسى أمام نادي إيندبنتي الكولومبي عندما اضطروا إلى إشراك إينزو بيريز لاعب خط الوسط حارساً للمرمى، ولكن كان هنالك ألفاريز في الأمام ليحرز هدف الفوز في المباراة التي انتهت 2/1، ليكتسب الشاب الأرجنتيني شعبية هائلة.
وكأن أبواب النجاح فتحت له، فكانت الانطلاقة الكبرى له في مباراة السوبر كلاسيكو أمام البوكا جونيورز، وكانت أول صفاته أنه لا يهاب المباريات الكبيرة، ولم يكن الضغط الجماهيري أبداً عائقاً أمامه، فإذا استطاع مقاومة ضغط جماهير أمريكا الجنوبية فلا داعي للخوف من الجماهير الإنجليزية أو الإعلام.
لماذا ألفاريز هو الخيار الأنسب للسيتي
ألفاريز ليس "الكون" أجويرو، وليس من مصلحته أبداً أن يرتبط اسمه باسم المهاجم الأرجنتيني منذ هذا الوقت المبكر، خصوصاً أن فئة "خلفاء الأساطير" لم ينجح منها أحد يذكر نجاحه بالشكل الذي وصف به، فهل ما زلنا نتذكر في وقت قريب آرثر ميلو تشافي الجديد أو حتى بويان كريكيتش أو "ميسي القادم"؟
كل تلك الضغوطات كانت وما زالت عقبة أمام هؤلاء اللاعبين الشباب وخصوصاً في حالة أجويرو وألفاريز، وهو ما يستحق تذكيراً سريعاً أنه عند قدوم بيب جوارديولا كان من أول مطالبه رحيل "الكون"، وهو ما وضحه والد الأرجنتيني بعد رحيله من السيتي ودموع جوارديولا الشهيرة بعد آخر مباراة له، ووضح الوالد في مقابلة مع إحدى وسائل الإعلام الأرجنتينية أنه لا يصدق دموع الإسباني، وأنه لطالما كَرِه وجود سيرجيو في الفريق.
ولكن إذا تحدثنا عما قد يجعل ألفاريز بالفعل مناسباً للسيتي إجمالاً ولجوارديولا خصوصاً، فقد نشر تقرير على موقع Sbnation يتحدث عن أهم 5 أسباب تجعله مناسباً للفريق الأزرق، ولكن بالتأكيد ستكون أهم تلك المميزات التي لفتت نظر المدرب الإسباني هي خروج ألفاريز من المسمى التقليدي للمهاجم، أو الجناح أو حتى صانع الألعاب، فإذا استعرضنا المراكز التي لعب فيها خلال آخر موسمين مع غاياردو المدير الفني لريفربليت فقد استخدمه جناحاً أيمن ومن ثم أيسر في أحيانٍ أخرى، بل وكصانع ألعاب لفترات ليست بالقصيرة قبل أن يقرر بشكل نهائي الاستفادة منه في العمق بجوار مهاجمٍ آخر أو حتى وحيداً في بعض المباريات.
فمع مدربٍ تجهل مراكز اللاعبين في أرض الملعب معه، وتنسى مواقعهم الأصلية، فتلك المرونة مطلوبة بشكل قويٍ جداً، خصوصاً أنه حتى الآن ومع قدوم هالاند لا نستطيع الجزم هل سيكون ألفاريز مهاجماً بديلاً أم بجوار هالاند في العمق، أم أنه سيبدأ في المنافسة مع جريليش ومحرز في الأجنحة؟
ولكن في المباريات التحضيرية بدأ في الشوط الثاني أمام بايرن ميونيخ بديلاً لهالاند في العمق مع استغلال سرعته، فهل ألفاريز سيكون حلاً لجوارديولا في تلك المباريات التي تحتاج مهاجماً بتلك المواصفات؟ أم عندما نعود للمقال بعد عدة أشهر سنجده يتنافس مع برناردو سيلفا ودي بروين في منتصف الملعب؟
وكان مما افتقدته الملاعب في اللاعبين الشباب والمواهب الصاعدة في الفترة الأخيرة اللاعبين الذين "تحفظ أرجلهم" مكان المرمى، ويستطيعون التسديد من أي مكان، ويحرزون الأهداف من أي ركن في الملعب، وتحت أية ظروف، ففي مباريات معينة قد تتعقد الأمور بشكلٍ يعرفه جيداً جوارديولا، وتحتاج فقط إلى تسديدة افتقدها السيتي كثيراً في السنوات الماضية، تلك التسديدة قد تفك عقد مباريات صعبة وتريح الفريق.
ألفاريز، وفق تقريرٍ لموقع Theanalyst، استطاع التسديد والإحراز من خارج المنطقة وداخلها، فأهدافه المختلفة توضح مدى تمكنه من مهارة مثل الالتفاف والدوران، بل والمراوغة، وفوق كل ذلك قوة قدمه الضعيفة (غير الأساسية) التي يمتاز بها أيضاً، واستطاع إحراز الأهداف بها، كما أن صناعة الأهداف ليست شيئاً يجهله، فتمريراته الحاسمة تجعله مهاجماً متكاملاً، خصوصاً مع سنه الصغيرة، فمع كل تلك المميزات لم يكن الأمر مزحة عندما توقعت أن يكون منافساً لدي بروين وبرناردو سيلفا في خط الوسط.
ألفاريز سيكون بشكلٍ أو بآخر أمام مواجهة ضد عدد من المشاكل المتوقعة والتي واجهت مواهب مثله، ولكن مما تكرر ذكره كثيراً هو امتيازه بقوة شخصية في سنٍ صغيرة وضحت في مباريات صعبة وتحت ضغط جماهيريٍ قاتل، خوليان الذي لا يتعب ولا يوفر مجهوداً في الضغط على مدافعي الخصم طوال المباراة انتظاراً لأي خطأ سيكون سلاحاً مناسباً لجوارديولا، وخصماً مرهقاً لدفاعات البريميرليج.
ولكن يظل كل هذا في يد ألفاريز وحده، فهو من يستطيع أن يحقق طفرةً يكمل بها تلك القصة التي ستحكى لأجيال قادمة، ويتفوق على كل المواهب التي خرجت قبله، وإما أن يظل حبيساً لدكة جوارديولا الكابوس الأسوأ للاعبي كرة القدم، فمع جوارديولا لديك قصتان؛ الأولى أن تدخل كرة القدم من أوسع أبوابها، وتستمتع في الملعب وتكون ممتعاً لمن حولك، والثانية أن تظل حبيساً لدكة مدرب لا يحمل في قلبه رحمة، ويرى جميع من في الملعب آلات يحب التحكم بها، ولا تجد لنفسك مكاناً وسط هذه الروبوتات.
فبين هذا وذاك ما زالت القصة في بدايتها، وما زال لألفاريز فصلٌ في قصته قد يكون هو الأمتع والأفضل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.