أندريا بيرلو أو "الريجيستا" كما يحلو لعشاق التكتيك أن يسموه لاعب كاد أن يقتل في إنتر ميلان، لولا تدخل كارلو أنشيلوتي الذي أبدى إعجابه بجرأة الطفل النحيف، وتمريراته المميتة للخصوم، ورأى أنه يستطيع أن يخدمه كلاعب وسط مساعد أو بديل للقاطرة البشرية غاتوزو، في الشطر الأحمر من مدينة ميلانو.
بداية، كان إشراك أندريا بيرلو صعباً، إذ يتعسر عليه أن يشارك على حساب كتلة قوية من لاعبي الوسط أمثال سيدورف وغاتوزو وروي كوستا، فآنذاك كان ميلان مدججاً بخط وسط قوي، لذا لم يتمكن في أول سنتين من أن يلعب بشكل أساسي، مضى عامان وهو حبيس دكة البدلاء، لكن في موسم 2003 تمكن من حجز مكان أساسي.
أخرج أندريا بيرلو من نفسه نسخةً قويةً، حيث يصفه كثيرون بأنه أفضل ممرر وأفضل مسدد ضربات حرة في تاريخ اللعبة، لكن يبقى العنصر الأهم في تلك البرهة التي عاشها مع ميلان، حين ابتكر "كارليتو" مركزاً جديداً في الوسط، أصبح لاحقاً حجر أساس في التكتيك الإيطالي لكل فريق، يدعى "الريجيستا"، ويعني صانع الألعاب المتأخر، لاعب خط الوسط الرابط بين الدفاع والهجوم، كما يمتلك فضائل الدقة في التمرير الطويل والقصير، والتمركز الجيد والهرب من الرقابة؛ لذا يُعتمد عليه في بناء الهجمة من الخلف.
عاش أندريا بيرلو الحلم، شأنه شأن كل أطفال إيطاليا، فما أجمل من أن تلعب مع قطبي ميلانو، وأفضل فريق لربما في تاريخ إيطاليا، يوفنتوس، وأن تفلح فلاحاً عظيماً معهم، ومع المنتخب تشارك الأرضية مع نجوم مثل روبيرتو باجيو ومالديني ونيستا وديل بييرو وخافير زانيتي، إلى جانب أعمدة خط الوسط سيدورف وغاتوزو والحارس الأعظم في تاريخ إيطاليا بوفون، وتتدرب تحت إمرة مارتشيلو ليبي وكارلو أنشيلوتي وكونتي، وتُزامل لاعباً بحجم كريستيانو رونالدو، وتقدم نسخة يقال عنها في إيطاليا إنها أفضل نسخة خط وسط في تاريخ الكالتشيو.
بيرلو عاش كل قصص النجاح الممكنة كلاعب، فاز بكل ما هو ممكن من البطولات دون أن يبرح مكانه إلا في آخر عمره كلاعب، عاش كل سنين عمره في إيطاليا، تمكّن من حصد كل شيء، مر بلحظات كرة القدم الحزينة والسعيدة كلها.
كان من بين الحاضرين في الريمونتادا المدوية على الروسونيري في ليلة إسطنبول القاتلة، التي انقطعت فيها أنفس جل عشاق كرة القدم حيرةً وتعجباً.
وبعدها بسنة يخوض مباراة العمر في تاريخه تلك الليلة التي سهرت فيها إيطاليا سعادة وبكت فرنسا حزناً، الليلة التي نطح فيها زيدان ماتيرازي، في الحدث الخالد في تاريخ المونديال.
لكن جميع الإنجازات وخبرات اللعب تحت كبار المدربين، والمسيرة الاحترافية المميزة لا تخول له، وليست ضماناً لمسيرة تدريبية ناجحة. ممارسة كرة القدم أمر والتحليل والتدريب أمر آخر، والنجاح في اللعب لا يعني النجاح في التدريب. يقول المحلل الكروي محمد العلوي: "اللاعبون ليسوا بارعين في التحليل، لأنهم مارسوا اللعبة انطلاقاً من الحدس، يعرفون ماذا يفعلون دون الحاجة لتحليل قراراتهم.
لذلك يعتقدون دائماً أن ما يحدث في الملعب هي أحداث تلقائية ليست بحاجة لتحليل، أو لا يمكن تحليلها، اللاعبون الذين تميزوا في التحليل كانوا منتبهين أثناء مسيرتهم الكروية، لأنهم قرروا الالتحاق بمهنة التدريب أثناء مسيرتهم الكروية، لذلك كانوا أكثر وعياً بما يمر عليهم، يمكنك أن تأخذ ميدو كمثال هنا، ويمكنك كذلك سماع معاناة أليغري من تساؤلات سيدورف المزعجة أثناء فترة الميلان".
بهذه الكلمات يختصر لنا العلوي أن اللعب في مستوى عالٍ لا يؤهلك لخوض غمار التدريب، نظرة المدرب واللاعب مختلفتان. تدرب بيرلو مع أفضل المدربين لا يخول له النجاح كمدرب.
لكن في الأوساط الرياضية جمع كبير يرى أن تجربة بيرلو هذه ربما تكون ناجحة لطاقمه المدجج بأفضل الموجودين في الأوساط الرياضية الإيطالية.
المتصوف أندريا بيرلو في تركيا
لا شك أن عشاق التحليل وتفاصيل اللعبة وجزئياتها سيحطون الرحال في تركيا مع أندريا بيرلو، المدرب الجديد لنادي "فاتح كارا غومروك"، سنضبط الساعة على توقيت مباريات الفريق التركي، لنتذوق طعم وجبات السيد أندريا بيرلو، الذي يأمل أن يبدأ نهجاً جيداً في مسيرته مع طاقم مكون من نحارير مدربي ومحللي الكرة في إيطاليا، هناك في بلاد الحكمة، أندريا بيرلو بعد إخفاقه في اليوفي، متمنياً أن توزع عليه صكوك الغفران من جماهيره بعد مسيرته التي انتهت بالفشل.
بيرلو قدم إلى مكان مخالف للمألوف، خارج الخارطة الكروية الأوروبية، بعيداً عن الحدة التنافسية، يريد أن يجرب نهجاً جديداً ويطور حاسته التدريبية هناك في تركيا، يريد القفز والذهاب بعيداً مع كاراغومروك.
أندريا بيرلو، الذي خاض نزاعات في الكالتشيو ضد المخضرمين، وتمكَّن من تدريب أعظم فرق إيطاليا يتجه فجأة إلى فريق مغمور في تركيا، كان من الأفضل لأندريا بيرلو أن يفتتح مسيرته مع فرق صغيرة، ليتدرج مثلما فعل ناغلسمان، الذي رفضه ريال مدريد بداعي أنَّ الآوان لم يحِن بعد، ولم يصل بعد لتلك اللحظة التي تخوله لتدريب عملاق كالريال، وعياً منه أن هذه مخاطرة تستطيع إنهاء مسيرته قبل بدايتها.
بيرلو ينطبق عليه نفس السياق، شاب كاد حماسه أن يقتل مسيرته، لكن تجربته هذه ستكون شيئاً آخر بحضور أسماء من الصنف الأول من الكرة الإيطالية، مثل أنتونيو جالياردي، محلل رافق المنتخب الإيطالي طوال 12 سنة لم يغادره سوى في مارس/آذار 2022، يمتلك شهادة اليويفا A من الاتحاد الإيطالي، المحلل قدم إلى بيرلو في آخر موسم له مع اليوفي السنة الماضية.
روبيرتو روبانيو، أحد الأسماء المهمة في كتيبة بيرلو في الفريق التركي، مدرب من طينة الكبار في إيطاليا، درَّب منتخبي إيطاليا تحت 18 و19 سنة، ودرَّب فريقَيْ بريشيا ونابولي تحت 19 سنة.
باولو برتيللي الذي اقترب من حجز مكانه في دار العجزة في إيطاليا سيكون المدرب التقني للفريق، الرجل أشرف على هذا العمل في المنتخب الإيطالي الأول، كما كان مساعد إعداد بدني رفقة بيرلو، الموسم الماضي، عمل في فرق تشيلسي واليوفي وفيورنتينا وروما وسامبدوريا وأودينيزي.
بلا شك ستكون مهمة صعبة للمدرب في الأراضي التركية، لكنه جلب معه كفاءات من إيطاليا، يمتلكون أكبر الشهادات الممكنة في عالم كرة القدم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.