في أحد اتصالاتي مع والدي -حفظه الله- في مكالمة جادة ختمتها معه ببعض المزاح، ليضحك والدي ويخبرني بعدها بجُملة شغلت بالي "حتفضل طول عمرك هلّاس"، والهلس بالمصرية هو حب الضحك والمزاح، وقعت تلك الجملة في نفسي موقع التأمل، لأتساءل: ماذا لو خَلت نفوسنا من ذلك "الهلّاس" الذي بداخلنا؟!
يحوي كل منا بداخله "أنماطاً شخصية" صغيرة يُفعّلها بحسب المواقف، فبداخل كل منا الانطوائي الذي يهرب به من ضجيج البشر والمسؤوليات، والاجتماعي الذي يفتح به العلاقات ويبني به جسور التواصل والصداقات، والكئيب الذي يستجلب الغم والأحزان، وأيضاً "الفرفوش" الذي يخفف وطأة الحزن أو الجد على النفس، كل تلك الأنماط تتكامل داخل شخصيتك، وتُوازن تركيبتك النفسية.
تفكرت في ذلك النمط -نمط الفرفوش- الذي ربما يراه البعض غير مهم، فوجدت أنه خفف عني كثيراً من وطأة الهموم، وانتشلني من الغرق في بحر الكدر، فهو الوحيد القادر على إيقاف مطاحن التفكير التي تضرب داخل عقلي، والوحيد القادر على إخماد أعصابي المُثارة بالعصبية والغضب، فهو أشبه بمخرج طوارئ داخل العقل تهرب من خلاله من أحمال بقية الأنماط.
"الفرفوش" الذي بداخلنا يصبو إلى كل ما هو طفولي، ويميل لكل ما هو غير جاد، يدعوك للعب بلعبة أطفال أو مشاهدة كارتون أو مقطع كوميدي، يجعلك تحنّ لسماع دلال (دلع) والدتك لك، فلا تتحرج منه، هو يريد تخفيف أثقال نضجك الذي شيب رأسك وأتعب قلبك وأثقل كاهلك.
الكثير يتحرج من تلك الشخصية ظنّاً منه أنه الوحيد الذي يملكها، ولا يدري أن كل الناس يمتلكون ذلك "الفرفوش" داخلهم، بالطبع ليس عند كل الناس بدرجة واحدة، ولكن لا تخلو نفس من الجنوح نحو المرح والضحك وتصفية البال، للهروب من كدر الحياة. لقد فهم المصريون تلك الحقيقة فأخرجوا النكات على مآسيهم التي عاشوها، لعلمهم أنها الحيلة الوحيدة للهروب من ضيق تلك الظروف.
لقد ساعدني "الفرفوش" في تجاوز أحلك لحظات حياتي.. أتذكر يوم عودتي من رحلة عصيبة تعرضت فيها لحادث أليم، فقدت ذلك اليوم شهيتي للطعام، وانكمشت معدتي بشكل غير مسبوق، إلى أن صعدت طائرة العودة وبدأت بمشاهدة فيلم كارتون، رويدا رويدا وجدت أن أعصابي قد ارتخت وبطني بدأ يقرقر من الجوع، لقد قرر "الفرفوش" إيقاف تلك اللحظات الحزينة التي عشت بها عبر ذلك الفيلم الكارتوني الطفولي الذي أخرجني من غياهب الكآبة والغم.
لقد ساعدني على التصابي مع بناتي والعيش معهم كالطفل، أسمع يومياتهم في الروضة والمدرسة، ومشاكساتهم مع صديقاتهن، بلا كلل، وأشاركهم اللعب دون ضجر، كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي، فإذا التمس ما عنده وجد رجلاً"، وما أعظمها من وصية.
لقد ساعدني في مد علاقات التواصل مع الناس ودق أبواب قلوبهم عبر التبسط معهم بالضحك والطرافة، دون تعدٍّ لحدود اللباقة، كما قال ابن القيم: "أحب الناس وألطفهم من زالت عنه ثقالة النفس وكدورة الطبع"، كما ساعدني في الهروب من الاجتماع بمن أستثقل الجلوس معهم وأستثقل كلامهم!
استغربت من نُصح أحد الأطباء النفسيين أحد المصابين بنوبات الهلع حين تأتيه النوبة بمشاهدة أحد المقاطع الكوميدية، أو الحديث مع أحد في موضوع ساخر، وذلك من أجل قطع حبل التفكير الدائر في رأسه بلا نهاية، لأن الاستسلام للضغط والتفكير الزائد يُمرض وأحياناً يميت الإنسان. سمعت نصيحة الطبيب وكأنه يقول "أطلِق الفرفوش الذي بداخلك"، على وزن نصائح مدربي التنمية البشرية "أطلِق العملاق الذي بداخلك".
لا أقصد بذلك مدح التهريج والهروب من المسؤوليات، فالحياة كلها "كَبَد" لا يُعين عليها إلا الجد والكد، ولكن المحافظة على ذلك القدر من الجانب المرح في شخصيتك يوازن متاعب الحياة وصعوباتها. كما لا أنقص من قدر التدين شيئاً فالدين عامل أساسي في تركيبة الشخص الروحية، ولكن مع أعلى مستويات الإيمان يظل الإنسان يحتاج إلى جزء من الضحك والمرح، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم الصحابة يتبادحون بالبطيخ -أي يترامون به- وهم صفوة الخلق بعد الأنبياء.
فهذا المقال لفتة نظر في الحرص على سلامتك النفسية عبر خاطرة بسيطة في فهم ذاتك المُعقدة ونفسك المتراكبة، والتي عليك إدارتها والحفاظ على سلامتها النفسية قدر الإمكان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.