فتح الأندلس
استطاع طارق بن زياد في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك عام 92هـ/ 711م العبور للطرف المقابل للمغرب (إسبانيا) بقوة عسكرية قوامها 7 آلاف مقاتل، وهزيمة ملك القوط الغربيين رودريك في معركة وادي لكة في 28 رمضان عام 92 هـ/ 19 يوليو/تموز عام 711م، وفي غضون أعوام تمكنت الجيوش الأموية من فتح معظم أرجاء شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال).
استمر توسع الأمويين في إسبانيا وبلاد الغال (فرنسا) إلى أن استطاع ملك فرنسا شارل مارتل الملقب بـ(الطرقة) إيقاف التمدد الأموي في معركة بلاط الشهداء التي انتهت بهزيمة ساحقة للجيش الأموي واستشهاد قائده عبد الرحمن الغافقي في رمضان عام 114هـ/ أكتوبر/تشرين الأول عام 732م، ومن ثم دخلت الأندلس بعد هذه الهزيمة في حالة من عدم الاستقرار بسبب صراع كل من قبائل العرب المضرية والعرب اليمانية من جهة، وبين العرب والبربر من جهة أخرى على السلطة.
الدولة الأموية في الأندلس
في أثناء الصراع الواقع في الأندلس تمكن العباسيون بقيادة أبي العباس أول خلفاء الدولة العباسية من هزيمة مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية في معركة الزاب في 11 جمادى الآخرة عام 132 هـ/ 5 يناير/كانون الثاني عام 750م، وعلى أثر هزيمة الأمويين وتنكيل العباسيين بهم تمكن الأمير عبد الرحمن بن معاوية من الفرار بجلده من نقمة العباسيين إلى المغرب ثم الأندلس.
وعند وصول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلس استغل الاضطرابات الواقعة هناك، وتمكن من تأسيس الدولة الأموية في الأندلس بعدما استطاع استمالة البربر والعرب اليمانيين ضد العرب المضرية، فأخضع مدن الأندلس بعد هزيمة آخر ولاة الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري في موقعة المصارة في 9 ذي الحجة عام 138هـ /15 مايو/أيار عام 756م.
وبعد وفاة عبد الرحمن بن معاوية عام 172هـ/ 788م عن عمر ناهز 59 عاماً، نجح ابنه هشام الرضا ومن بعده الحكم الربضي في الحفاظ على وحدة أراضي الدولة الأموية في الأندلس، كما تمكنا من صد جميع محاولات الممالك المسيحية في شمال الأندلس للتوسع في الأندلس، كذلك وقعت في عهد الحكم الربضي في 13 رمضان عام 202 هـ/ 25 مارس/آذار عام 818م ثورة أهل قرطبة (ثورة الربض) التي كادت تتسبب في سقوط الدولة الأموية في الأندلس إلا أن الحكم الربضي نجح في القضاء عليها.
ساهمت حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي في عهد هشام الرضا ومن بعده ولده الحكم الربضي في بلوغ الدولة الأموية في الأندلس إلى مرحلة لم تبلغها من قبل، وانعكست بشكل جلي وواضح للعيان في عهد عبد الرحمن الأوسط، إذ أصبحت الدولة الأموية في عهده مركزاً حضارياً مشعاً بالعلم والأدب والازدهار والتطور في غرب العالم الإسلامي.
وكذلك ساهمت حالة الاستقرار في تطور المجتمع الأندلسي الذي كان عبارة عن خليطٍ من أجناس وأعراق والقوميات مختلفة، إلى ظهور طبقة المولدين الذين كانوا من أهم مكونات المجتمع الأندلسي في عهد الدولة الأموية في الأندلس، وهم جزء كبير من الشعب الإسباني أو القوطي الذين أقدموا على اعتناق الإسلام برغبتهم واختيارهم بعيداً عن أية ضغوط خارجية أو داخلية، أو كنتيجة مباشرة للزواج المختلط بين المسلمين والنصارى وقتها.
ثورة ابن حفصون
إلا أنه بعد وفاة عبد الرحمن الأوسط عام 238هـ/ 852م، انقلبت الأوضاع في الأندلس رأساً على عقب بسبب عجز الأمراء الأمويين الذين جاؤوا من بعده على فرض النظام وسيادة الدولة في ربوع الأندلس، حيث ثارت طبقة المولدين الذين لم ينسوا أصولهم القوطية ضد الدولة الأموية والوجود العربي ككل، وتمكنوا خلال عدد من السنوات من تأسيس مجموعة من الدويلات الخاصة بهم على رأسها دويلة عمر بن حفصون في جبل ببشتر (جبال سييرا نيفادا) بجنوب الأندلس.
إذ تمكن ابن حفصون مع مجموعة من قطاع الطرق من تأسيس نواة لعصابة متمردة ضد الدولة الأموية، وحتى يستميل طبقة المولدين والمستعربين لجأ في بداية ثورته إلى إثارة النزعة الإثنية ضد العرب تحت شعار التخلص من نير العرب الغزاة.
وقد نقل ابن عذاري شيئاً من خطبه: حيث قال: (طالما عنّف عليكم السلطان، وانتزع أموالكم، وحمّلكم فوق طاقتكم، وأذلتكم العرب واستعبدتكم، وإنما أريد أن أقوم بثأركم، وأُخرجكم من عبوديتكم)، وقد لاقت دعوته ترحيباً وتأييداً من شريحة واسعة من المولدين والمستعربين الناقمين على الأمويين والوجود العربي في الأندلس.
وعندما استفحل أمر ابن حفصون سعى الأمير الأموي محمد بن عبد الرحمن لوأد ثورته في مهدها، فأرسل حملة عسكرية بقيادة ولده المنذر عام 273هـ/886م للقضاء على ثورة ابن حفصون، فتمكن المنذر من هزيمة ابن حفصون الذي فر جريحاً من قلب المعركة وتحصن في إحدى المدن الخاضعة لسيطرته، فحاصره المنذر الذي اضطر فيما بعد لفك الحصار والعودة بجيشه إلى قرطبة، بسبب وفاة محمد بن عبد الرحمن في 29 صفر 273 هـ/886م.
استغل ابن حفصون وفاة محمد بن عبد الرحمن فباشر ثورته فسيطر على مناطق واسعة من شرق الأندلس كرية ورندة وإستجة وأرشذونة ومالقة وجيان وباغة وقبرة، وبعد أن تولى المنذر السلطة في قرطبة أرسل عدداً من الحملات للقضاء على ابن حفصون إلا أن جميعها فشلت في وأد تلك الثورة.
وحتى ينتهي المنذر نهائياً من ثورة ابن حفصون جهز حملة عسكرية وقادها بنفسه عام 274 هـ/887م، فتمكن من هزيمة ابن حفصون والاستيلاء على حصونه وقلاعه جنوب الأندلس، فلجأ ابن حفصون إلى حيلة ذكية حيث أوهم المنذر بموافقته على رضوخه له، فسمح له المنذر بالنزول بأهله في قرطبة، فطلب ابن حفصون من المنذر مئة بغل لينقله وأهله وماله إلى قرطبة، فوافق المنذر بن محمد على طلبه وفك الحصار عنه، وأرسل معه 150 فارساً لحمايته في الطريق إلى قرطبة، إلا أن ابن حفصون غدر بالمنذر وقتل فرسان الحماية وفر، فعاد المنذر وكله غضب وحاصر ابن حفصون في معقله في جبل ببشتر إلا أنه أثناء الحصار مرض ولم تمضِ فترة قصيرة حتى توفي عام 275 هـ/888م.
بعد وفاة المنذر استفحل خطر ابن حفصون وقد استولى على كل الجنوب الأندلسي، بل تجرأ ونقل قاعدته من ببشتر إلى حصن بلاي (بلدية أغويلار ديلا فرونتيرا في إسبانيا حالياً) قرب قرطبة عاصمة الأمويين في الأندلس، ومن هناك بدأ يشن الغارات الخاطفة على أحواز قرطبة وقراها، وهنا أعد الأمير عبد الله بن محمد أخو المنذر جيشاً قوامه 18 ألف مقاتل، استطاع هزيمة جيش ابن حفصون شر هزيمة في 2 صفر 278هـ/891م، ففر على إثرها ابن حفصون وعاد لمعقله في ببشتر.
ثم في محاولة من ابن حفصون لاستمالة ملوك الشمال المسيحي أعلن اعتناقه الديانة المسيحية وغير اسمه إلى صمويل، إلا أن اعتناقه للمسيحية أفقده معظم أتباعه من المولدين الذين كانوا يدينون بالإسلام، وخلافهم مع السلطة المركزية في قرطبة كان خلافاً سياسياً وليس دينياً، لذلك انقلب عليه عدد كبير من المولدين وأعلنوا ولاءهم للأمير عبد الله بن محمد. ولم يتحقق لابن حفصون مراده.
بالمحصلة أدت ثورة ابن حفصون في جنوب الأندلس إلى تدني المستوى الزراعي مما أثر على الوضع الاقتصادي ومن ثم انعكس على الجانب الاجتماعي بطبيعة الحال، فقد هجر الكثير من الأهالي مناطقهم نتيجة الغارات وما رافق ذلك من سلب ودمار الممتلكات، فانعدم الأمن وتعرضت الأندلس لكوارث طبيعية من قحط ومجاعة.
نهاية ابن حفصون
في عام 300هـ/ 912م تولى عبد الرحمن الناصر حكم الدولة الأموية في الأندلس وهي في حالة يرثى لها؛ إذ انحصرت سلطة الدولة الأموية في عهد سابقيه من أمراء الأندلس في شريط ضيق حول مدينة قرطبة العاصمة، فبدأ الأمير عبد الرحمن الناصر عهده بحملة عسكرية عرفت باسم (غزوة المنتلون) في رمضان 300 هـ/912م، فهزم ابن حفصون شر هزيمة واسترد منه مدينة إستجة وسائر حصون كورة جيان ورية ووادي آش وحصون جبل الثلج.
ورغم هزائمه لم يمل ابن حفصون فهاجم حصون كورة ريّة والجزيرة الخضراء، فخرج له عبد الرحمن في شوال 301هـ/914م، فبدأ بحصار قلعة طرش، وهناك وقعت معركة حامية الوطيس بين قوات عبد الرحمن الناصر وقوات ابن حفصون، قُتل على إثرها أعداد كبيرة من قوات ابن حفصون وحلفائه، ففر ابن حفصون كعادته للتحصن في جبل ببشتر.
حتى انقطعت السبل أمام ابن حفصون وخسر أتباعه وأغلب حصونه في الجنوب الأندلسي، لجأ في عام 303 هـ/916م إلى طلب الصلح، فاشترط عليه عبد الرحمن الناصر أن يسلم جميع حصونه وقلاعه، وأن يدخل في طاعته فوافق ابن حفصون.
توفي ابن حفصون عام 306هـ/918م ودفن في كنيسة ببشتر. بعد وفاته حاول أولاده جعفر وعبد الرحمن وحفص أن يستمروا على نهج والدهم في التمرد ضد الدولة الأموية، إلا أنهم لم يستطيعوا الصمود طويلاً أمام حملات عبد الرحمن الناصر التي كانت تدك حصونهم، فاستسلم آخر أبناء ابن حفصون لعبد الرحمن الناصر، وسلّم قلعة ببشتر عاصمة أبيه لعبد الرحمن الناصر عام 316 هـ/928 م، فأمر عبد الرحمن باستخراج جثة ابن حفصون، وصلبه أمام جامع قرطبة وقيل على أسوار قرطبة، وقد ظلت جثة ابن حفصون مصلوبة على هذا النحو حتى عام 331 هـ/942 م.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.