فارزيا.. ورافينيا
إنها الشمس، تحديداً حين تُرسل حرارتها على الرمال، في فارزيا، ومن لا يعرف فارزيا فالأفضل له ألا يعرف، لكن دورنا هنا أن ننقل ما نعرفه بمنتهى الصدق.
إنها فارزيا، حيث يمكنك اللعب بلا عقود، وبلا قمصان، ومن دون شباك، ومن دون كرة مملوكة لأحد، إنها فارزيا، أحضِر كرتك معك من المنزل، واصطحبها معك حين تغادر.
إنها فارزيا، حيث يقف الرجال على حدود الميدان، الذي هو عبارة عن رمال فحسب؛ حاملين مسدساتهم، لا لشيء أكثر من أنها فارزيا، ويمكنك سماع أصوات المشجعين، الذين هم من أهل الساحل، يُطلقون ضدك صيحات ليست استهجاناً، إنها تهديدات بالقتل، لا تقترب من المرمى، لا تسجِّل هدفاً، لا تفعل أي شيء يُسعدك ويُبكينا، يهتفون هم، يهتفون لفريقهم، الفريق الذي يلعب كأنه سيموت غداً، يلعب كأنه لم يلعب من قبل، يلعب كأن حياتهم ستُدفع ثمناً إذا خسر!
هذا ما دفعك لقول، إن من يلعب في فارزيا، يمكنه أن يلعب في أي مكان في العالم، مَن ينجو في فارزيا يمكنه التكيف على أي وضع آخر.
المشكلة أنك من ريستينجا، لديك عائلة من الأصدقاء، الذين يحتاجون خدماتك، والذين تحتاج خدماتهم، وريستينجا بعيدة عن أي نقطة تحلم بالوصول إليها بسهولة، والأصدقاء يخافون نفس الأشياء التي تخافها، تهديدات القتل وعصابات المخدرات، والفقر أيضاً..
تحتاج ثمن الرحلة إلى أي مكان، وتحتاج الطعام معك، هي نفس الاحتياجات التي يفتقدها أصدقاؤك، كبيرهم وصغيرهم، وإذا امتلكها واحد منهم، فإن الجميع سينعمون بما امتلك.
بعد المباريات التي تلعبونها تكونون جائعين، متسخين، وقفتم تسألون الناس عن لقمة تأكلونها، أردتم ثمن التذكرة التي تُعيدكم إلى رستينجا من أي مكان كنتم فيه، بعض الناس ظنوا أنكم متسولون، أو تريدون سرقتهم.
والدك كان يعمل لكي يطعمك وأسرتك، لكنكم لم تكونوا أغنياء، كان كل ما تملكونه يكفي لإصلاح لحظة جوع، وما تسكنون فيه يحمل أسرة كاملة في غرفة.
في السابعة من عمرك، منحك والدك فرصة ذهبية، فرصة لم تكن تحلم بها، وفق عمله، الذي هو عضو في فرقة للسامبا.
إنك تراه الآن أمام عينيك، بعيداً عما يبدو عليه على التلفاز، إنه رونالدينهو، الرجل الذي أخذ البرازيل وشعبها معه في كل مكان دخله، والذي قال: "امنحني الكرة فحسب، وسأجعلك سعيداً".
يوم عيد ميلاده، ويستقبل الجميع في حرارة وسعادة، ويسير معك إلى الداخل، ويبتسم في وجهك، وتتمنى لو أن ما تعيشه الآن هو وحي من الخيال؛ لكنه ليس خيالاً، إنه رونالدينهو، الرجل الذي أخذ البرازيل وشعبها معه في كل مكان دخله.
لكنك ما زلت تعيش في دائرة فارزيا، ولم تخرج منها بعد، والأموال التي تحتاجها للخروج ليست معك، والطرق التي تأتي عن طريقها الأموال لا تسلكها، وتعرف جيداً نتيجة السير فيها.
الأقارب الذين رحلوا لأنهم تورطوا مع عصابات، والأصدقاء الذين تاجروا في المخدرات ثم ماتوا وأصبحوا رقماً في قائمة طويلة تسجلها الحكومة في دفاترها، والعائلات التي تعيش بأب أو أم، لا كلاهما، كل هذا أنت تعرفه جيداً وتدرك ما يعنيه إذا أردت النجاح كما تدعي.
بداية الطريق صعبة.. لكنها الحياة
لقد حاول رافينيا حتى الثامنة عشرة من عمره، أن يخرج من دائرة فارزيا تلك، لكنه لا يتذكر عدد المرات التي قوبل فيها بالرفض، لقد رُفض من جريميو، وإنتر ناسيونال، وكل مكان ذهب إليه.
"أنت رائع جداً، لكنك قصير القامة".
"أنت مهاري للغاية، لكنك نحيف بطريقة لن تنفعنا".
"أنت موهوب، لكن بنيتك الجسدية لن تسعفك".
في كل مكان دخله رافينيا، كان يسمع تلك الاعتذارات، وفي التاسعة عشرة، التحق لأول مرة بأكاديمية أفاي، مع فريق تحت 20 سنة، هناك أصيب، أصيب رافينيا لأن الحياة تقتضي مثل هذه النكبات.
وحينما تعافى من إصاباته، لم يكن رافينيا يحتفظ بمكانه قبلها، لقد فقده، مثلما فقد الكثير من الأقارب والأصدقاء في صغره، من هنا فهم رافينيا أن عليه أن يبحث عن حياة أخرى، حياة مختلفة عن أحلامه.
ليلتها اتصل رافينيا بوالديه، وأخبرهما بأنه استسلم، لم يعارضاه، لكن أمه أخبرته بأنه إذا توقف عن السعي من أجل أحلامه؛ فعليه أن يبحث عن وظيفة عادية فور عودته.
أمه التي عملت في كل شيء تتخيله، مصففة شعر، نادلة في أحد المطاعم، بائعة، موظفة استقبال في أحد الفنادق، غيرت وظائفها أكثر مما غيرت ثيابها، لكي تصل إلى حلمها في النهاية، وهذا ما قصدته بالتحديد.
"بعد كل السعي الذي تبذله ستصبح لاعب كرة قدم في فريق كبير عما قريب"..
قالتها فحسب..
لقد كانت محقة
من يصدق أن رافينيا قد خرج أخيراً من ظلمات فارزيا، وأنه قد كوَّنَ سيرة رائعة، بدأت في أفاي، مروراً بفيتوريا جيماريش ومنه إلى سبورتينج لشبونة، وطاف فرنسا في رين، ثم استقر في إنجلترا، لدى ليدز يونايتد.
وفي ملعب الاتحاد، حينما تدخل فيرناندينهو على رافينيا، وخشي بيلسا أن يكون رافينيا قد تأذى، أخبره رافينيا بأنه بخير، وأن كل شيء طبيعي للغاية، وما هو أسوأ كان يحدث في فارزيا، وأن رافينيا يعرف كيف يعالج مثل هذه الكدمات.
عاد إلى المنزل، هناك اكتشف أن التدخل كان أبشع مما رأى في فارزيا، لقد تجلطت الدماء في قدمه، وأصبح غير قادر على السير أو ركوب السيارة، وظن أن قدمه ستُبتر وأن المسيرة التي سعى من أجلها لأكثر من 17 عاماً؛ أنهاها مواطنه البرازيلي فيرناندينهو.
لم تنتهِ بهذا الشكل، ولن تنتهي!
بعد أن عانى الأمرّين في فارزيا، ورأى المسدسات، وتعامل مع المجرمين وتجار المخدرات، وبعد أن حضر عيد ميلاد رونالدينهو في السابعة من عمره، وكان يتمنى أن يعيش ما عاشه.. تصارع عليه كبار أوروبا، ليدز تمسك به، فهم أنه يمتلك شيئاً سينعش خزائنه إذا ما استثمره بالشكل الصحيح. في إنجلترا، كانت لندن تتنافس عليه، في الجارين: تشيلسي وأرسنال، وفي ألمانيا وقف بايرن ميونخ مراقباً وطامعاً في الظفر بخدماته.
وفي نهاية هذا السباق، كان برشلونة، الفريق الذي لطالما أحبه رافينيا، والذي رأى رونالدينهو يأخذ كل ما في البرازيل معه إليه، والذي دفع من أجله 58 مليون يورو بالإضافة إلى 8 ملايين متغيرات، وهو عرض أقل من العروض التي قُدمت له لكن رغبة اللاعب قربت المسافات بعض الشيء.
لقد عانى برشلونة حتى حصل عليه، مثلما عانى رافينيا من الرفض في صغره، وحاول بكل ما أوتي من قوة أن يختار برشلونة فحسب، إنه يريد أن يصبح رونالدينهو الجديد، أو خليفته، أو سَمِّهِ كما تريد، المهم أنه يريد أن يعيد إحياء قصة رونالدينهو في برشلونة، ويريد أن يأخذ من البرازيل وشعبها الكثير من الأشياء ليضعها في الكامب نو ويبتهج.
الآن سيعيش رافينيا الحياة التي حلم بها طوال عمره، في برشلونة وعلى عشب الكامب نو، وأحد ذخائر منتخب البرازيل في مونديال قطر، والرجل الذي تصارعت عليه أكبر أندية أوروبا، بعد أن رفضته الأكاديميات في البرازيل، وبعد كاد أن يتنازل عن أحلامه؛ لولا أمه، المرأة التي كانت سبباً رئيسياً في وصوله إلى مبتغاه، حين قرر أن يستسلم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.