سبق في أحد المقالات التي كتبتها عن راهنية عمل حركات الإسلام السياسي ورهانها المستقبلي، أن سقف المشروع الوطني بإمكانه أن يوطن أكثر، وجودَ هذه الأحزاب في الفضاء السياسي، ويخفف عنها إرثاً متراكماً من التشوهات التي لاصقت مسيرة النشاط المتنوع بين الدعوي الحركي والسياسي الحزبي.
وفي كل مرة نشدد فيها على قيادات الأحزاب الإسلامية في العالم العربي استباق المتغيرات القُطرية والإقليمية؛ حتى لا تأتي بخلاف الأدوار المطروحة عليها وإمكانيات تحقق مستوى من المقبولية الوطنية ومن مشروعية العمل الوطني، خاصةً إذا ما تأسست أرضية للعمل السياسي وفق شروط ديمقراطية هي الأقدر على توجيه العمل الحزبي للصالح العام وخدمة مشاريع وطنية حقيقية في العالم العربي.
يأتي التذكير بهذه الموجهات العامة للاستدلال على السلوك الحالي لعدد من الحركات الإسلامية في العالم العربي، وحالة الانتباه المفقودة للظروف القاهرة التي تشهدها العملية الديمقراطية في عدد من بلدان الربيع العربي وغياب آفاق ملموسة لتسويات سياسية بإمكانها معالجة هذه الظروف، والإبقاء على فرص العمل السياسي الضامن للمراهنة على حركات الإسلام السياسي كشريك سياسي في البناء الديمقراطي الوطني.
أعتبر أن كل اللحظات الآن- مهما بلغت حدّتها- لحظات قابلة لأي عملية مراجعة وإعادة توجيه للخيارات السياسية الكبرى، وكل الظروف تسمح بذلك إذا ما كان المقصد بكل وضوحٍ تأمين مستقبل العمل السياسي على أرضية المشروع الوطني، وهو بداية شرط نجاح هذه العملية التي تتطلب مقبولية جامعة ومصداقية تتجاوز حدود الصورة الذهنية السلبية حول حركات الإسلام السياسي، وفشلها في كسب ثقة أطياف سياسية واسعة، وحتى المقبولية العامة عند عموم المواطنين.
ومن البديهي عندي ألا تخضع عملية المراجعة لشرط البحث عن القبول المزيف من باقي الأطياف السياسية، فهي أيضاً عليها القيام بمراجعات حقيقية المستوى والعمق المطروح نفسه على حركات الإسلام السياسي. وتتوفر الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على أرضية قيَمية معتبرة بإمكانها تحقيق أكبر قدر من المصداقية المطلوبة، ولا شك عندي أن أكبر شيء، تم استهدافه طيلة السنوات الماضية للتضييق على حالة المقبولية الشعبية التي اكتسبتها حركات الإسلام السياسي، هي الصورة القيَمية المرتبطة بوجود هذه الأحزاب في الفضاء العام، قد نختلف في التعبير عن الحاجة لهذه الصورة في مساحات العمل السياسي أو بالأحرى كيف يمكن الاستثمار في هذه القيم لخلق سلوك سياسي أخلاقي وفي تحقيق غاية الإنجاز وتحسين حياة الناس، وأن الإيمان بالقيمة لذاتها يُكسبها قوة التأثير وأهميتها في دعم التجربة الديمقراطية وفي تغيير أحوال الناس.
رأس مال العمل الإسلامي في العالم العربي قائم على الفارق القيمي بالأساس، فإذا ما تحقق المعيار القيمي كمرجع للعمل وتحقيق الإنجاز فسيكون بالضرورة بوابة أصيلة لأخلقة (من الأخلاق) العمل الحزبي ومجالاً للتنافس.
قد يكون الكلام عن القيم في جوانبها السياسية فاقداً للمقبولية تحت وطأة تحقيق المنجز والتغيير من أحوال الناس المترهلة اقتصادياً واجتماعياً، والوقوع في هذا المطب سيجر حركات الإسلام السياسي إلى ضرب أكبر مكسب تحقق لهم منذ نشأة عملهم الحركي والحزبي، وإلى اليوم يثبت الإسلاميون أنهم قادرون على لعب أدوار متقدمة في العملية السياسية وفي النضال الوطني بمرجعية المعيار القيمي، وهم بذلك معنيون بمنطق الواجب إلى مركزة هذا المعيار في مسار المراجعات المطلوبة، والتي تستهدف كامل مفاصل عملهم الحزبي، خاصةً في جوانبه الهيكلية والقيادية.
وإنَّ تعطُّل مقومات الإصلاح الحزبي الذي تشهده عديد من الحركات الإسلامية ينذر بفقدانها أسس البقاء في فضاء التأثير السياسي والتنافس الانتخابي، فليس بالإمكان لأي كيان سياسي أن يتكرر فيه المشهد القيادي طيلة عقود ودون أن تتحقق فيه شروط التجديد في نخبه القيادية وفي برامجه وتصوراته الإصلاحية، هذا المفصل الدقيق الذي تمر به حركات الإسلام السياسي يجب أن يأخذ منعرجاً حاسماً في اتجاه إصلاح منظومة الارتقاء القيادي، وتشبيب الصورة المترهلة لقيادات هذه الأحزاب.
بطبيعة الحال كل ما سبق ذكره يجب أن يكون مقروناً بغاية تحقيق المصلحة الوطنية، وكسب ثقة المواطن بالمراهنة أولاً على الديمقراطية كآلية قادرة على خلق الثروة والتقاسم العادل لها وإقناع المواطن بأنه شريك حقيقي وبمنطق المواطنة والواجب في إنجاح مسار الانتقال الديمقراطي، والمراهنة كذلك على القيمة في إحكام الفعل الحزبي السياسي، وليس آخراً- وهو المطلوب- أن تكون لهذه الأحزاب وغيرها من الفاعلين الوطنيين قدرة على تقديم برامج بإمكانها تحقيق النهوض الاقتصادي، والاجتماعي.
يشهد العالم العربي متغيرات عميقة على مستوى إدارة العلاقات بين الدول الرئيسية الفاعلة وإدارة أكبر الملفات العالقة على المستويين الإقليمي والدولي، وفي خضم هذا المشهد، تحصل تسويات يبدو أنها ستأتي بترتيبات، ستكون لها ارتدادات سلبية على نشاط حركات الإسلام السياسي، خاصةً مع حالة التقهقر الملموسة في بلدان الربيع العربي التي تشهد اضطراباً في مسار إرساء العملية الديمقراطية. على حركات الإسلام السياسي خوض مسار التسويات الكبرى بعملية إصلاح ومراجعة ذاتية قادرة على تخفيف آثار الترتيبات الإقليمية الحاصلة وتُكسبها مزيداً من الفرص للاستمرار في المشهد السياسي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.