في مرثية الشتات العربي بعد سنوات وبعد أن يعود الغريب إلى دياره ستكون بصمتا السوري واليمني حاضرتين بقوة في الأماكن التي حلّا بهما خارج موطنيهما، فعلى سبيل المثال ستُذكر الشاورما كطعام رافق السوري ليس كأنس أخير في عالم تخلى عنه فحسب بل كجواز عبوره إلى حضور أكثر تأثيراً وكاريزمية، لطالما كان الطعام حلقة أخيرة لتشبث الغريب بجذوره، إذ يسهل معه استحضار بعض من الفضاء المحسوس لموطنه الأصل، واستعادة مذاق الألفة والعائلة، ومن هذا التشبث الشاعري يصنع الغريب علامة تأثير في فضائه الجديد، فيترك هناك آثار حضوره السخي على مائدة المُضيف.
ورق العنب وبابا غنوج.. الشام مرّ من هنا
تكثفت هجرة الشوام إلى مصر من بعد منتصف القرن التاسع عشر إلى أربعينيات القرن العشرين، أسهمت تلك الهجرة في فضاءات عدة، أسس بشارة وسليم تقلا جريدة الأهرام في 5 أغسطس/آب 1876، وأصدر يعقوب صرُّوف مجلة المقتطف في بيروت عام 1877، ونقلها إلى القاهرة عام 1885. ونشط جورج أبيض في المسرح، كما شارك الشوام بنشاط في تنمية القطاع الخاص، ونجحوا في زراعة القطن وأشجار التوت، ومن تلك التأثيرات ما أضافته لمسة الضيف الشامي على مائدة المصريين، عرف المصريون اليبرق من الشوام، وهو وصفة تركية الأصل يُحشى فيها ورق العنب أرزاً بخلطة اللحم المفروم، تغيرت الخلطة في المطبخ المصري ولاقت رواجاً في الطبقات العليا، ثم أصبحت من الأكلات ذات الشعبية الكبيرة، كما عرف المصريون بابا غنوج من الشوام، كما اكتسب المصريون منهم بعض عادات حفظ الطعام مثل تجفيف الفواكه كالمشمش والقراصيا.
البكاكين.. حضور أندلسي في الساحل المصري
ينتشر في محافظة كفر الشيخ نوع من الخبز المميز يسمى الكوماج الفلاحي أو البكاكين، والكوماج معروف في فلسطين، وهو مختلف عن هذا الخبز رغم تشابه في المكونات، وأصل تسميته تركي من "كمج" وتطلق على القرص، يبقى الاسم الحصري له بكاكين، ولو تتبعنا أصل الكلمة بتقسيمها إلى مقطعين "باك، أكين" قد نفترض أن المقطع الأول قريب من "bak" إسبانية تعني الخبز وهي قديمة تطلق على نوع الخبز الدائري الذي نسميه "القُرص"، ويمكن أن تكون باك مرتبطة في معناها أكثر بالقرص، وأن أصلها أندلسي أطلقت أول ما أطلقت على نوع من الأقراص الدوائية صنعها لأول مرة الطبيب الأندلسي أبو بكر سليمان بن باج، تيمناً بلقبه "باج"، نستطيع إذاً أن نفترض أن أصل البكاكين أندلسي قدم مع الأندلسيين الذين طردوا من ديارهم واستقروا تحديداً في كفر الشيخ، إذا تشير الدراسات إلى وجود مكثف للأصول الأندلسية هناك.
قدير نورمان.. تركي يغزو المائدة الألمانية
لم يكن قدير نورمان -الذي قدم من تركيا ليعمل عاملاً في ألمانيا- يتصور بأنه سيُدخل إلى النظام الغذائي الغربي صنفاً جديداً مبنياً على طعام تركي أحبه، ولعله حين بدأ ببيع الشاورما التركية ملفوفة في الخبز أمام محطة حديقة الحيوان في برلين عام 1973م كان يستهدف إخوانه المهاجرين، لكن سرعان ما لاقت تلك الشرائح الشهية شعبية كبيرة لدى الألمان أنفسهم، ما أطلق عليه "دونر كباب" انتقل من ألمانيا إلى أنحاء العالم الغربي كله، وقد نقلها إلى سياتل الأمريكية أحد الأمريكيين المرتبطين بالثقافة الألمانية.
رحل قدير نورمان عن عالمنا قبل حوالي تسع سنوات عن عمر يناهز الثمانين، وبقى تأثيره في ثقافة الطعام حاضراً حول العالم.
خبز التميس.. قوة أفغانستان الناعمة
حل خبز التميس مع الأفغان والباكستانيين أينما ارتحلوا، سبقهم إلى أراضٍ لم تطأها أقدامهم، ولظروف أفغانستان التاريخية والإقليمية الخاصة حُجبت قواها الناعمة عن العالم، سوى هذا الخبز المتوهج الذي عبر إلى دول عدة عبر الحجاج والمغتربين في الخليج، لم يستطع منطق العولمة أن يقاوم انتشار هذا الخبز لمذاقه الفتان وتشبث الغريب الأفغاني به في حِله وترحاله.
تاكو باستور.. بصمة شامية في أمريكا الوسطى
في مطلع القرن العشرين تسارعت وتيرة الهجرة من الشام إلى العالم الجديد، تركزت الهجرات في بلدان بعينها، كان الحضور الشامي ظاهراً في بلدان كالمكسيك، ليس فقط من خلال حجم الجالية الكبير، بل من خلال التأثير الكبير في ثقافة الطعام، جمعت تاكو باستور كأكلة شعبية لاقت رواجاً حتى الآن بين الشاورما العربية وتقاليد الطهي المكسيكية.
انتشار جديد في الحواضر العربية
انتشرت الشاورما في الحواضر العربية خلال العقد الأخير لتصبح من الأطعمة المنافسة على المراكز الأولى للشعبية، كان هذا الانتشار مرافقاً لحركة الشتات السوري بعد الأحداث التي أعقبت الثورة السورية عام 2011م، غيّر ذلك مشهد طعام الشارع كلياً وبصورة مفاجئة في العديد من البلدان خاصة مصر، وقفت التفسيرات عاجزة عن تفسير هذا النجاح الذي حققته الشاورما في حواضر استقر فيها طعام الشارع لعقود طويلة.
الطعام اليمني.. ثقافة حاضرة في قلب الجيزة
مؤخراً أصبح للطعام اليمني حضور سخي ومتجذر في قلب محافظة الجيزة المصرية، تنتشر المطاعم اليمنية في كل الأحياء الشعبية والراقية، وتقدم يومياً العديد من الوصفات اليمنية المميزة، يحب الناس الفحسة والسحاوق والباخمري الحضرمي والمقصقص والعقدة والزربيان، وأصبحت تلك الوصفات ضيف رئيسي على مائدة المصريين اليومية.
في النهاية ندرك أن الهجرة تحمل معها تأثيرات من روح المكان الأصل، تأثيرات تمتد لعمق ثقافة البلد المضيف، وتغير في عاداته وتضيف إلى موائده وفنونه.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.