انطلاقاً من مسجد الفاتح بإسطنبول، شيّع مئات الآلاف جنازة الشيخ المربّي محمود أسطا أوغلو الذي توفي عن عمر ناهز الثالثة والتسعين، قضاها في العمل الدعوي والتربوي منطلقاً من قريته في منطقة البحر الأسود؛ حيث عمل مدرساً في مسجد القرية ليصبح واحداً من أكثر الأئمة تأثيراً في العصر الحديث.. فما هي القصة؟
النشأة
ولد محمود أسطى عثمان في قرية شافانلي القريبة من طرابزون شمال شرقي تركيا عام 1929 لأسرة مهتمة بالتعليم الديني، فتتلمذ على يدي والده "علي أفندي" الذي كان إماماً لجامع قريته ووالدته "فاطمة هانم" التي كانت أيضاً مهتمة بالعلوم الدينية وعلوم القرآن الكريم الذي أتم حفظه في العاشرة من عمره.
تعلّم الشيخ اللغتين العربية والفارسية والنحو والصرف وعلوم القرآن والفقه وأصوله والحديث والتفسير والبلاغة، وحفظ القرآن الكريم في وقت مبكر من حياته، كما حصل الشيخ على الإجازة في العلوم الدينية، وبدأ بتعليمها للناس في مسجد قريته في حين لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره. وفي عام 1951 تم تعيينه إماماً وخطيباً لمسجد بولاية سيفاس بمنطقة الأناضول وسط تركيا، وبقي فيها حتى إتمامه الخدمة العسكرية عام 1952.
الانتقال إلى إسطنبول
انتقل الشيخ إلى إسطنبول عام 1953، مصطحباً زوجته، وهي ابنة خاله التي أنجب منها ثلاثة أبناء؛ ولدين وبنتاً، ليقيم في منطقة الفاتح، بجوار جامع إسماعيل أغا وهو جامع تاريخي بُني في عام 1723م في عهد السلطان أحمد الثالث، وقد أنشأه شيخ الإسلام آنذاك أبو إسحاق إسماعيل أفندي، وكانت الحكومة قد باعته لأحد التجار بوصفه مستودعاً، في ظل التوجه العلماني للحكومات آنذاك.
ساء الشيخ كثيراً أن يرى الجامع على تلك الحال؛ حيث كان التاجر يستخدمه في أعماله التجارية من تخزين للخضروات والمواشي، فاشترى الشيخ المسجد من الرجل، ودعمه صديق له كان يعمل مفتياً بالدولة اسمه علي حيدر أفندي في إحياء الجامع الذي بقي في إمامته منذ عام 1954 إلى أن تقاعد في عمر الخامسة والستين عام 1996، وبقي هذا الجامع رمزاً لطريقته التي سُمّيت باسم الجامع (طريقة إسماعيل أغا) حتى اشتهرت مؤخراً باسم طريقة محمود أفندي.
استفاد الشيخ محمود من الأجواء التي وفّرتها حكومة الحزب الديمقراطي، برئاسة جلال بايار، وإدارة رئيس الوزراء عدنان مندريس؛ حيث أعقبت حقبة شديدة التطرف في العلمانية، أغلقت على إثرها المدارس الدينية وحظر تدريس اللغة العربية وتم تحويل الأذان إلى اللغة التركية وغير ذلك من الممارسات المتطرفة التي نتج عنها سقوط مدوٍّ لحزب الشعب الجمهوري برئاسة عصمت إينونو ليصعد الحزب الديمقراطي المعتدل ويعتلي سدة الحكم إلى أن أزاله انقلاب 1960.
شهدت تلك الفترة إعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء، وإعادة الأذان باللغة العربية، والسماح على استحياء بالأنشطة الدينية والدعوية بعد أن كانت عقوبتها تتراوح بين السجن والإعدام قبل ذلك!
وكان التجريف الذي تعرض له المجتمع التركي خلال تلك السنوات كافياً ليجعل الإقبال على المساجد والدروس الدينية قليلاً، لكن الشيخ كان مثابراً، ويحكي طلابه أن مسجده لم يكن يرتاده في الفترة الأولى إلا خمسة عشر مصلياً على الأكثر!
الانقلاب الأسود وتوابعه
جاء انقلاب 1960 ليمثل نقطة فارقة في تاريخ تركيا عموماً، وفي مسيرة الشيخ محمود أفندي؛ حيث تم إعدام عدنان مندريس وعدد من رفاقه وأجريت انتخابات صورية أعادت حزب الشعب الجمهوري إلى السلطة برئاسة عصمت إينونو، وتبعت ذلك ممارسات قمعية تجاه كل من يملك توجهاً إسلامياً، وكان الشيخ من أبرز المستهدفين خلال تلك الفترة.
وحين أغلقت المدارس الدينية في تركيا، صار محمود أفندي يذهب إلى البيوت يطلب منهم إرسال أبنائهم إليه ليدرسهم خفية، ويقول: إذا ماتت علوم الشريعة فسيموت الإسلام في تركيا، وكانت هذه مخاطرة شديدة في هذا الوقت.
لقد تعرض الشيخ للكثير من الاضطهاد والظلم على أيدي القوى العلمانية؛ حيث حكم عليه بالنفي إلى مدينة أسكي شهير وسط الأناضول، ثم اتُّهم بالضلوع في حادث اغتيال مفتي أُسكودار عام 1982، إلا أن المحكمة برّأته من تلك التهمة بعد محاكمة استمرت عامين ونصف العام، تعرض خلالها لهجوم شديد من وسائل الإعلام المقربة من الحكومة والأحزاب العلمانية بهدف اغتياله معنوياً.
لم تتوقف محاولات التخلص من الشيخ خصوصاً مع ذيوع صيته واتساع شعبيته وزيادة عدد محبيه ومريديه، ففي عام 1985 تم اتهامه بتهديد علمانية الدولة المنصوص عليها في الدستور من خلال ما يلقيه من دروس ومحاضرات على طلابه ومريديه، لتتم إحالته إلى محكمة خاصة بأمن الدولة، إلا أن الادعاء لم يتمكن من إثبات شيء أمام المحكمة فاضطرت للحكم ببراءته.
وتبع ذلك فترة متقلبة في السياسة التركية والحكومات الائتلافية التي لم تدم لفترة طويلة، وبينما كان الشارع منشغلاً بالأوضاع السياسية والاقتصادية المتدهورة كان الشيخ يتحرك بهدوء وثبات في تأسيس المدارس الدينية ومحاولة نشرها في كل ولاية وقرية ومدينة في تركيا وذلك دون صخب أو اشتباك مع القضايا السياسية.
انطلاقة ومحاولات للوأد
عندما وصل الأستاذ أربكان إلى السلطة 1996 ورغم أنه لم يبق فيها إلا عاماً واحداً قبل الانقلاب المشهور بالانقلاب الأبيض أو المذكرة العسكرية، فإن هذه الفترة أتاحت التقاط الأنفاس قليلاً للشيخ محمود أفندي؛ حيث بدأ يرى ثمرة عمله التربوي من خلال انطلاق العديد من تلاميذه وتلاميذ تلاميذه للتغيير في المجتمع التركي، وكان ممن تأثروا به في تلك الفترة عدد من الشباب في هذا الوقت، منهم رجب طيب أردوغان، وأحمد داوود أوغلو، اللذان سيصبحان من ألمع الأسماء في السياسة التركية الحديثة.
لم تكد الأجواء تصفو ويلتقط الشيخ أنفاسه وتكتسب حركته العلمية والدعوية مساحة أكبر إلا وحدث الانقلاب على الأستاذ أربكان وتبعته تهديدات مستمرة له بالاغتيال؛ وذلك لدفعه للاعتزال والتوقف عن العمل الدعوي والتربوي.
ففي عام 1998 اغتيل صهره وتلميذه الشيخ خضر علي مراد أوغلو داخل مسجد إسماعيل أغا، واغتيل صهره وأكبر طلابه ومعيد دروسه الشيخ بيرام علي أوزتورك أثناء إلقائه محاضرة داخل مسجد إسماعيل أغا عام 2006، كما تعرض الشيخ محمود نفسه لمحاولة اغتيال بإطلاق الرصاص على سيارته عام 2007، ليتم نقله سريعاً إلى المستشفى وقد لاحقه المتآمرون هناك في محاولة لإنهاء مهمتهم التي باءت بالفشل، فحاولوا إطلاق الرصاص عليه لكنه لم يُصب بأذى.
ومع تولي حزب العدالة والتنمية زمام الحكم عام 2002 بدأت العقبات الحكومية أمام حركة الشيخ تصبح أقل، ولعل هذا هو السبب الرئيس في اللجوء إلى محاولات الاغتيال لإسكات الشيخ ومنع جماعته من التمدد.
ما هي جماعة إسماعيل أغا؟
تعتبر جماعة إسماعيل أغا من الجماعات الصوفية السنية المعتدلة، وتنتهج المذهب الحنفي والعقيدة الماتريدية وتتصوف على الطريقة النقشبندية، وهي طريقة لها ملايين المريدين في مختلف بلاد العالم الإسلامي.
يعكف أتباع الشيخ على حفظ القرآن الكريم وتعلم اللغة العربية ومختلف العلوم الشرعية، وذلك في مدارسه المنتشرة في كل أنحاء تركيا ولها كذلك فروع في بعض دول البلقان، والدراسة فيها مجانية بالكامل؛ حيث يتم التدريس بنظام المدارس الداخلية التي يعيش فيها الطلاب أجواء المعايشة مع الأساتذة والشيوخ، وهو ما يكون له أثر بالغ في التشكيل النفسي والفكري للطلاب.
يتميز أتباع الشيخ بزيٍّ خاص؛ حيث يرتدون العمامة والبناطيل الفضفاضة ويطلقون اللحى، وتتستر النساء ويرتدين خماراً أسود لا يظهر سوى العينين والأنف، ويلتزمون بأحكام الإسلام في المجمل دونما تشدد ولا تسيب.
ولعل مشهد طواف الشيخ محمود أفندي بالحرم المكي في حضور ثلاثين ألفاً من مريديه يعطي صورة لمدى التأثير الذي تمتع به والزعامة الروحية التي وصل إليها.
معالم التأثير
لا يمكن لأحد أن يجزم بأن سر تأثر الشيخ خطوات محددة أو خطة مرسومة، فهناك جانب كبير متعلق بحب الناس له والقبول الذي يسّره الله لأعماله، ولكن يمكننا أن نحدد بعض المعالم التي ميزت مسيرة الشيخ العلمية والدعوية التي خاضها في أوقات غاية في الصعوبة، ونجح في استبقاء الروح الإسلامية والتعليم الديني قائماً في تركيا رغم تعرضه لهجوم مستمر بلا هوادة سواء على الصعيد الحكومي في ظل حكومات حزب الشعب الجمهوري أو على صعيد العلمانيين المتطرفين.
– البناء الهادئ: قام الشيخ محمود ببناء هادئ لعدد من الطلاب، لم يكن العدد كبيراً لكن البناء كان متيناً سواء من الناحية العلمية أو التربوية والفكرية، وجدير بالذكر أن الفترات الأولى لعمل الشيخ كانت شاهدة لوجود الكثير من رجال الدين والمشايخ ذوي التوجه العلماني المتطرف أو أصحاب الآراء الفكرية الشاذة، وكان البناء العلمي المتين منطلقاً أساسياً في حركته التي اعتمد فيها على طلابه وطلابهم من بعدهم.
– عدم الانجرار إلى الصراعات الإسلامية-الإسلامية: يعتبر توجه الشيخ الصوفي النقشبندي معروفاً وواضحاً، لكن مدرسته ليست مدرسة متشددة ولا تتشابه مع المدرسة السلفية أو رفض الآخر والهجوم على أتباع المدارس الأخرى، فلم يؤثر عنه دخوله في صراعات فكرية أو فقهية تصل إلى حد المفاصلة كالتي انجرّ إليها الكثير من الحركات والمدارس الإسلامية.
– وضوح المبادئ: كان الشيخ رحمه الله واضحاً في رفضه مظاهر التبرج والانحلال التي انتشرت في المجتمع، وعلى العكس من بعض الحركات الإسلامية التي أظهرت بعض التسامح في قضايا من باب "قبول الآخر" فإنه كان واضحاً في بيان موقف الدين من كل هذه القضايا دون ميوعة أو تذبذب.
– البعد عن العمل السياسي: كان بُعده عن العمل السياسي وتركيزه في العمل العلمي والتربوي أحد أسباب نجاحه وتركيزه في مساره، فعلى الرغم من تقلب الأحداث السياسية في تركيا فلم يشارك الشيخ في أعمال السياسة بصورة من الصور، ورغم شعبيته الجارفة لم يكن عضواً في مجلس الأمة ولم يتولّ أي منصب.
– عدم الانعزال عن القضايا المحورية: رغم ابتعاده عن السياسة، فإنه لم يكن يوماً منعزلاً عن المجتمع؛ حيث يؤثر عنه توجيهه الشهير لتلاميذه ومريديه بضرورة مواجهة انقلاب عام 2016 فكان له أثر كبير في توجيه الملايين من المواطنين الأتراك إلى الشوارع في مواجهة دبابات الانقلابيين، وكان هناك العديد من الشهداء والمصابين من أتباع الشيخ في هذه الأحداث.
– تأسيس البيئة الحاضنة: فإذا زرت منطقة جامع إسماعيل أغا تشعر أنك خرجت بعيداً عن أجواء إسطنبول السياحية لتجد أجواء ممتلئة بالسكينة والهدوء، في منطقة يغلب عليها طابع التدين والالتزام، ويستطيع الزائر أن يميز ذلك بسهولة من أول دخوله للمنطقة، وكانت هذه المنطقة منطلقاً لتأسيس العديد من المراكز الدينية المحافظة في مختلف الولايات التركية.
– التركيز على التعليم: لم يقم الشيخ بالاكتفاء بالتدريس العام وفقط، ولكنه قام بتأسيس آلاف المدارس يدرس فيها الطلاب مجاناً يتخرجون وقد أتقنوا حفظ القرآن الكريم واللغة العربية ومبادئ العلوم الشرعية، وغالباً ما توفر لهم الجماعة وظيفة للتدريس في أحد الأوقاف أو المدارس أو الإمامة في أحد المساجد التي تديرها.
– الموازنة بين التعليم والدعوة: كان الشيخ رحمه الله متأثراً بحركة التبليغ والدعوة، ومن أنشطة جماعته الخروج في سبيل الله كحال أهل التبليغ، ينصحون الناس ويدعونهم للصلاة في المسجد، وتنظم جماعته الكثير من الأنشطة الموجهة لعموم الناس، فهي ليست حركة مقتصرة على طلاب العلوم الشرعية دون غيرهم.
– بناء نجاح اقتصادي باهر، جعل جماعته من أكبر الجماعات الثرية في تركيا؛ مما يسر لها الإنفاق السخيّ على الدعوة، وغيرها من المآرب المهمة داخل أروقة الدولة.
أكتب هذا المقال بعد مطالعة العديد من المصادر التركية التي تناولت حياة الشيخ، رحمة الله عليه، وأتمنى أن تتاح فرصة للقارئ العربي أن يتعرف على العلماء والدعاة والمؤثرين؛ حيث إن نموذجاً فريداً مثل الشيخ محمود أفندي، رحمة الله عليه، يمكن أن يكون مصدر إلهام للرواد والقادة من أبناء هذه الأمة لينطلقوا إلى آفاق التغيير دون تعلل بالظروف أو العقبات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.