الغَمْرُ ماءٌ غَزُرا *** والغِمْرُ حقدٌ سُترا
والغُمرُ ذو جهل سرى ** فيه ولم يُجرّب
حين هاجرت أسرة سيبويه من البيضاء في جنوب إيران إلى البصرة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، لم تكن تُدرك هذه الأسرة الفارسية نشأة وثقافة ولُغة أن ابنها الصغير الذي لم يعرف العربية إلا في مدينة البصرة سيكون ذا شأن ومكانة عظيمة بين علماء وعظماء عصره.
ولم يكن سيبويه نفسه يُدرك أن خطأه في نُطق وإعراب بعض الكلمات أمام شيخ من شيوخ الحديث النبوي الشريف سيجعله يتحدى نفسه، ويكسر قلمه، ويقسم على تعلّم العربية أفضل ما يكون، ثم ينطلق إلى أكابر علماء وعباقرة عصره، وعلى رأسهم العلامة الخليل بن أحمد الفراهيدي، أول من وضع معجماً للغة العربية وهو "العين"، وأول مخترع لعلم "العَرُوض" وهو العلم الذي يُعنى بأبحر وتفعيلات الشعر العربي.
بل لم يكن يدرك سيبويه نفسه أنه سيؤلف المصدر الأساسي والأبقى لعلم النحو العربي منذ ألف وثلاثمئة عام وحتى يومنا هذا، من خلال كتابه "الكتاب"، الذي اتكأت عليه مدارس النحو منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، ورغم أن يد القدر نالت من سيبويه وهو لم يزل في حيويته وشبابه ليلقى ربه وهو في الثانية والثلاثين من عُمره، بيد أنه ترك لنا مجموعة من التلاميذ النابهين العظماء، الذين ساروا على دربه في التأليف والتجديد والإبداع، ومنهم تلميذه الفذ قُطرب البصري.
فمن هو قُطرب؟ ومن أبرز شيوخه؟ وما نمط المثلثات الذي أدخله إلى علوم اللغة العربية وكان من أوائل من ألّفوا فيه؟ هذا ما سنراه في سطورنا التالية:
قُطرب ليل
لم تحدد لنا مصادر التاريخ العربي في القرن الثاني الهجري أي سنة وُلد فيها قُطرب، واسمه أبو علي محمد بن المستنير بن أحمد، وُلد ونشأ في مدينة البصرة جنوبي العراق، إذ كان بلده حينئذ ملتقى العلماء والفقهاء والمحدّثين، ومركزاً عريقاً من مراكز الاقتصاد والسياسة بجوار بغداد، وقد أحب أبو علي دراسة اللغة العربية، ورأى من علمائها في بلده كثُراً، بيد أن أكثر من لفت نظره فيهم العلامة إمام النحاة سيبويه الفارسي، الذي كان يأتيه باكراً ولا يمل من زيارته، حتى قال له سيبويه يوماً: "ما أنت إلا قُطرب ليل"، إشارة إلى دويبة تدبّ ولا تفتر، وهي النمل كبير الحجم، دائم الحركة، تأكيداً على همّته وسعيه الحثيث في طلب العلوم، والتقرب من العلماء، فصار "قُطرب" علماً عليه منذ ذلك الحين.
وسرعان ما نبغ قطرب وأصبح يُشبه أساتذته سيبويه والأخفش وغيرهما، وأخذته همّته إلى الاستزادة من علماء بغداد، والعيش في كنف العباسيين العظام آنذاك مثل الهادي وهارون الرشيد والمأمون، وشرع في تعليم أبناء علية القوم مثل أمير منطقة غرب بغداد أبي دلف العجلي، ويبدو أنه اشتُهر عند أبي دُلف هذا وغيره، حتى سمع به الخليفة العباسي الشهير هارون الرشيد وطلبه، وصار من حاشيته من جملة علماء النحو واللغة.
يروي التنوخي في كتابه "تاريخ العلماء النحويين" أن هارون الرشيد قال لقُطرب يوماً: كيف تُصغّر الدُّنيا؟ قال: هي مُصغّرة يا أمير المؤمنين. فقال له: اعمل كتاباً لعبد الله (المأمون)، ومحمد (الأمين)، فإنهما من أحوج الورى (الناس) إليه، فعمله. وقد سمّى هذا الكتاب بـ"الجماهير" في علم النحو، ويُعد من الكتب التبسيطية الأولى في هذا العلم، لأنه كتبه لطلبة العلم من الأطفال والفتية ومن في مستواهم.
كما كان لقطرب نصيب وإن لم يكن بالكبير في الشعر، مثل قوله:
إن كُنتَ لستَ معي فالذّكرُ منكَ معي *** يراكَ قلبي وإن غُيّبتَ عن بَصري
والعينُ تُبصرُ مَن تهوى وتفقِدُه *** وباطنُ القلبِ لا يخلو من النّظر
إنتاج غزير
بل رأينا شعراً لقُطرب يجيز فيه ويعترف لأحد تلاميذه واسمه أبو القاسم المهلّبي في مستواه العلمي الرفيع، وأخلاقه الجميلة، وسخائه الوافر، يقول:
ذا ما أقرّ به قُطرب ** على نفسه لأبي القاسم
وأشهدَ حوداً وجهْماً عليه ** وأشهدَ غزوان مع عاصمِ
بأن قال قد بذَّني في القياسِ ** وصيّرتُ في يده خاتمي
فأعلمُ بالنحو مِن سيبويه ** وأجود بالمالِ من حاتم
بديهتُه عند ردّ الجواب ** تزيد على فِطْنةِ العالمِ
فصرتُ على السّن تليمذه ** وصار أبو القاسم عالِمي
وقد دان قُطرب بمذهب المعتزلة وعلى رأسهم أبو عمرو بن العلاء والجاحظ وغيرهما، ويتبّدى ذلك في مجموعة من كتبه مثل كتاب "الفرس" وكتاب "تفسير القرآن"، وهذا التفسير لما ألّفه "أراد أن يقرأه في الجامع في بغداد، فخاف من العامّة وإنكارهم عليه؛ لأنه ذكر فيه مذهب المعتزلة، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته بالجامع"، على ما يذكر الأنباري في كتابه "نزهة الألباء في طبقات الأدباء".
واشتُهر عن قُطرب غزارة إنتاجه في ميادين اللغة والنحو وتفسير القرآن وغيرها، يقول الصفدي في كتابه "وفيات الأعيان": "كان من أئمة عصره، وله من التصانيف كتاب "معاني القرآن"، وكتاب "الاشتقاق"، وكتاب "القوافي"، وكتاب "النوادر"، وكتاب "الأزمنة"، وكتاب "الفِرق"، وكتاب "الأصوات"، وكتاب "الصفات"، وكتاب "العِلل في النحو"، وكتاب "الأضداد"، وكتاب "خلق الفرس"، وكتاب "خَلْق الإنسان"، وكتاب "غريب الحديث"، وكتاب "الهمز" و"فَعَلَ وأفْعل"، و"الرد على الملحدين في تشابه القرآن" وغير ذلك".
أول واضع للمثلثات
وهي قائمة نرى فيها نبوغ قُطرب في علوم مختلفة، ومكانته المرموقة التي حصّلها في عاصمة العباسيين بغداد، لكن أهم العلوم التي نبغ فيها واخترعها في علوم الاشتقاق الصرفي أو اللغوي، ما يُسمّى بمثلثات قطرب، وهي المثلثات التي لم يسبقه إلى التصنيف فيها والحديث عنها أحد في تاريخ التأليف في التراث العربي الإسلامي، يقول الصفدي: "هو أول من وضع المثلث في اللغة، وكتابه وإن كان صغيراً لكن له فضيلة السّبق، وبه اقتدى أبو محمد عبد الله بن السيد البطليوسي وكتابه كبير، ورأيت مُثلثاً آخر لشخص آخر تبريزي، وليس هو الخطيب أبو زكريا التبريزي، بل غيره".
والمثلث في اللغة ظاهرة لغوية عجيبة تكاد تمتاز بها اللغة العربية عن غيرها من لغات العالم، وهي كلمة حروفها أو صيغتها الصرفية واحدة، لكن معانيها تختلف باختلاف حركات حروفها، لا سيما الحرف الأول أو الأوسط منها، وينتقل معناها أو دلالتها إلى دلالة أخرى باختلاف هذه الحركات من الفتح أو الضم أو الكسر، وقد كتبها قطرب منثورة في كتاب صغير مستقل، ثم استحسنها من بعده عدد من العلماء والشعراء، فجعلوها نظماً؛ أي شعراً ليسهل حفظها بين طلبة العلم، وصارت اليوم من أشهر المنظومات الشعرية التي تُدلل على عبقرية اللغة العربية.
ويعتبر عبد العزيز المكناسي المغربي المتوفى في القرن العاشر الهجري من أشهر ناظمي مثلثات قُطرب، يقول فيها:
الغَمْرُ ماءٌ غَزُرا *** والغِمْرُ حقدٌ سُترا
والغُمرُ ذو جهل سَرى ** فيه ولم يُجرّب
فنحن هنا نجد أن الاشتقاق الثلاثي "غمر" اختلف معناه باختلاف حركة حرف الغين، فالغَمر بالفتح هو الماء الغزير الذي يغمر الواقف فيه، أما الغِمر بالكسر فهو الحقد الدفين، والغُمر هو الجهل وعدم الخبرة بالأمور، وعلى منواله يقول في "السلام":
تحيةُ المرءِ السَّلامْ *** واسم الحجارة السِّلام
والعِرق في الكفّ السُّلام ** رَوَوْه في لفظِ النبي
أما كلمة "الحرة" فسنجد أن معناها يختلف باختلاف حركات حرف الحاء أيضاً، يقول:
الحَرة الحجارهْ ** والحِرّة الحرارهْ
والحُـرّة المختارهْ ** من مُحصنات العربِ
وهو لون جميل من ألوان التأليف في التراث اللغوي العربي، والحق أن قُطرب قد ترك فوق مؤلفاته المهمة تلك، ومكانته العلمية واللغوية في عصره، ترك تلاميذ على قدر كبير من العلم والمعرفة استكملوا مسيرته، وعملوا على تطوير علوم اللغة العربية والنحو والاشتقاق والصرف وغيرها، منها ابن السكّيت (ت 244هـ)، ومحمد بن حبيب (ت 245هـ)، وأبو القاسم الباهلي المهلبي وغيرهم كثير، أما هو فقد وافته المنية في بغداد في عام 206هـ وقيل بعد عام 210هـ في خلافة المأمون بن هارون الرشيد، بعد هذه الحياة العلمية الحافلة، ويُعدّ من ألمع وأذكى تلاميذ إمام النحو العربي سيبويه بلا شك منذ ألف ومئتي عام وإلى يومنا هذا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.