"إنّك لن تشيخ ما دمت تدرك كيف تكمل الحب فيما تفعله غالباً".
وهنا أستحضر قول هاكسلي عن أن المثقف هو من اكتشف شيئاً أكثر تشويقاً من الجنس بحدّ ذاته. فلن أعالج هذه الفكرة على طريقة غرامشي أو فوكو، بل أريد لمس وتر حسّاس يجعله الوعي الجمعويّ (الجمعيّ) مسألةً ثانويةً مملة لأنها متداولة، وكما سبق أن قلت في "مقال رأي" إن التداول لكلمة "مثقف" ما هو إلا تشدق ونظرة نمطية للشخص نفسه تنتهي مهمته في حمل كتب والتقاط صور مع القهوة، وانتهاج كلّ مظاهر "البريستيج" شكلياً، من سجائر وورق مكدس وممزق، ونظرة بائسة للحياة، واستخدام المفردات وتكديسها.
وهذا ما حذر منه مالك بن نبي؛ فهو ما يبعد عنك الحقيقة، ويلغيك من قائمة "الزيتيتيك أو الزيتيتيكيين"، أي المشككين والباحثين عن الحقيقة، ويبعدك عن قائمة التنويريين، فكونك شخصاً يحفظ مصطلحات محدثة، كالحداثة والتقدمية، اليسار واليمين، والاشتراكية والأناركية… إلخ من المصطلحات السياسية والفلسفية المفهومة بمنتهى السطحية فقط تشدقاً، ولإعطاء الصورة النمطية للمثقف الواعي، يجعلك غير مثقف أصلاً.
وللعقل الجمعي ميكانيزما خاصة آلية، تدحض ما يمس معتقداتها، وما هو محمي تاريخياً، وهذا الوعي الطائش، كما أسميه، ما هو إلا استغباء تدريجي للفرد؛ بحيث يقع في التناقض شبه المطلق، ولكيلا أعقد الشرح فهو بمثابة سفسطة وتضليل. حسناً.. تقول الجموع هذا فاسد بناءً على ما تراه عاطفتهم سيكولوجيا، لكن سينقلب الأمر حين يحدث ما يمس عاطفتهم في قطب معاكس، لهذا أقول إن الوعي الجمعي يعاني أزمة تأويل وتفسير وتحليل لكل حدث، عقلانياً وعاطفياً.
وهذا ما وجب على العقل الفردي فرضه وخلقه من أجل التغيير، فكما يقول مالك بن نبي في كتاب الحضارة والأيديولوجية، إن حل المشكلة يكمن في تقبل الأمر كمشكل، وهذا أيضاً ما يعاني منه الوعي الجمعي. "معاناتنا ليست في السيطرة الغالبية للوعي المبهم، بل أيضاً في شريحة الفكر المغيبة سهواً، أو النخبة كما يحلو للجميع تسميتها، متى تدرك النخبة أو الفرد فيها بأن واجبه كمثقف حقيقي بعيد النظر أولى من حقه في اكتساب الاحترام؟".
نحنُ نعيش منذ دهر أزمة ثقافية بامتياز، تجول خواطرنا بينها في دهاليز المثقف والثقافة كمصطلحات تداولية متشدقة فقط، وكمظاهر تنم عن سطحيتنا الشديدة كجموع، بوعي جمعي يأبى إلا الانجراف وراء الرغبات والأمور السطحية، بينما تحارب الفردانية والاختلاف كأمور دخيلة، أو كما يقول البعض الذين أشبههم بكنيسة القرون الوسطى والبابا الذين يمنعون التفكير الحر وأي حرية، وأنه يكفي أن أفكر ولا أعيش ما أفكر فيه.
وهنا أتذكر قول أحمد زكي في البيضة والحجر: "ويل للعالم إذا انحرف المتعلمون، وتبهيظ المثقفون". وهنا بالمعنى السلس اتباع للمصلحة!
لو كانت الأزمة الثقافية جمعية فقط لرأينا بصيص أمل على الأقل، لست من موافقي برودون في فرض الفردية أو اللاسلطوية، لكن ما الحل إذا استمرت السخافات التي أراها؟ ما واقع هذا الانبطاح كله؟ هل يكفي النخبة أن تعتد بالتاريخ ومعرفته كما قرأته بمقال يتحدث عن المثقف؟ هل يكفي حقاً أن تصير مثقفاً يحب ما يفعله دون نظرة استشرافية تنويرية؟
هذا ليس هجوماً ممنهجاً، لكننا ضقنا ذرعاً بالأغلبية، ضقنا ذرعاً بالمظاهرية، لباس ثوب مثقف والأصل سفه ثقافي كبير؟ النخبة المدعية تحصيلها هو مصالحها والدفاع عنها، تحصيلها تشويه صورة الآخر حماية لها، ليس في إطار التعميم لكن الواقع يتحدث.
إننا لنرى سيراً نحو الهاوية، وصراحة تشعر بالخجل حين تنظر لبعض المنتمين إلى الفروع والمنظمات لأنك أهنت نفسك هكذا، وللأسف لا يحق فيهم حتى النقد، ومع ذلك تفعل، أين نحن من نقد فولتير الساخر، والعقاد والرافعي اللاذعين؟ أين نحن في سبيل إصلاح الأغبياء والفاسدين والجهّل؟
إن التحدث عن أزمة الثقافة يبدأ من الأكاديمية، كيف لك أن تنتج جيلاً مثقفاً وهو لا يعرف رأسه من قدميه؟ هل سيكفي هؤلاء قراءة كتب التغبية البشرية؟ هل سينفعهم هذا العمى؟ لا، مادامت الجامعة تعتني بتفاهة الطالب وتكديسه مع الوعي الجمعي فقل للدنيا سلاماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.