تعتبر استقلالية مؤسسات المجتمع المدني عن الدولة شرطاً أساسياً للتقليل من سيطرة الدولة عليها، بحيث يصبح المجتمع المدني له دينامية مستقلة، تمكنه من لعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، وعليه يصبح الفرد -بصفته مواطناً- ينتمي إلى جماعة أو مؤسسة توفر قدراً من الحماية.
في الحالة العربية حرصت النظم التسلطية على منع قيام مؤسسات مجتمع مدني "مستقل"، وفي حالة السماح بها فهي تُخضعها للرقابة والسيطرة، ولكن بالرغم من التضييق الذي يطال مكونات المجتمع المدني في المنطقة العربية، فإن بعضها أثبت فاعليته في القيام بدوره، وهنا نخص بالذكر الجمعيات الأهلية الإسلامية، التي أثبتت فاعليتها وتوغلها الأفقي في المجتمعات العربية.
في الحالة المصرية لم يختلف الحال عن السائد في المنطقة بالنسبة لتعامل النظام مع المجتمع المدني، لكن قانون "الجمعيات الأهلية"، الذي أقره البرلمان المصري، في 24 مايو/أيار 2017 شكل جدلاً واسعاً في الداخل والخارج، وذلك كونه يفرض قيوداً هائلة على تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، ويهدد عملها ويجفف منابعها، ويعاقب من يخالف القانون بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وبغرامة تصل إلى مليون جنيه.
حيث تم التضييق على عمل نحو 47 ألف جمعية محلية، خصوصاً منها ذات الطابع الإسلامي، بالإضافة إلى 100 جمعية أجنبية، وغيرها من الجمعيات التي كانت تقدم خدمات تطوعية للمواطنين الفقراء.
وقد سبقه حكم المحكمة الصادر بحظر أي جمعية تتلقى التبرعات إذا كان بين أعضائها أحد المنتمين إلى الإخوان المسلمين، وأتبعه قرار تجميد أموال الجمعيات الخيرية كوسيلة لتجفيف منابع التمويل. حسب تفسير الحكم.
هذه الإجراءات ساهمت بزيادة الضغط على الطبقات الكادحة التي تعاني الفاقة نتيجة الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي تفرضها الحكومة، ومع التغول العسكري في مفاصل الدولة وجميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، انحسر العمل الأهلي في مصر، الذي كان يقوم على تعويض عجز النظام، وحماية ملايين المواطنين من أزمات كبرى.
القرار أدى إلى تفجير الأوضاع الاجتماعية، وزيادة غضب المستفيدين من أنشطة هذه الجمعيات نحو الدولة أكثر منه نحو الإخوان، وعليه يمكن أن نتساءل عن ماهية الدور الاجتماعي والاقتصادي الذي لعبته الجمعيات الأهلية الإسلامية في مصر؟ وما أثر إلغاء إحدى مؤسسات المجتمع المدني في مصر على الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن؟ وهل استطاع النظام المصري سد الفراغ الناجم عن تغييب مثل هكذا مؤسسات؟
أولاً: دور الجمعيات الخيرية الإسلامية المصرية في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي
تمثل الجمعيات الخيرية الإسلامية في مصر حالة خاصة من حالات المجتمع المدني، حالة أكثر فعالية وحضوراً، لتغلبها على معوقات العمل الأهلي، ورغم ما تعرضت له هذه الجمعيات من حين إلى آخر من إجراءات أمنية وبيروقراطية، تصل إلى الحل وتطبيق عقوبة الحبس للقائمين عليها، فإن ارتفاع نسبة هذه الجمعيات، الذي وصل إلى 35% من مجموع الجمعيات في مصر سنة 2002، يؤكد أنها ظاهرة وحركة اجتماعية مرنة، قادرة بمكوناتها الدينية المختلفة على الاستمرار والتغلب على مختلف مشاكلها.
ويرى الباحث أحمد زغلول شلاطة في كتابه "الإسلاميون في السلطة: تجربة الإخوان المسلمين في مصر" أن العاملين في المجال الخيري بجميع توجهاتهم ينطلقون من قاعدة "التكافل الاجتماعي" بين المسلمين كواجب شرعي على القادر مادياً، وذلك من خلال فريضة الزكاة التي تُفرض على كل مسلم قادر.
لذا وُجدت جمعيات خيرية تقوم على كفالة قطاعات من المجتمع ممن لا يصل إليهم دعم الدولة، حيث ساعدتها الأوضاع الاقتصادية المتردية على لعبها دوراً مهماً في الحياة المصرية، سواء من النواحي الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، فعلى المستوى الاجتماعي تتمحور أنشطتها ما بين كفالة أيتام ورعاية مرضى ومساعدات فقراء وإغاثات في الكوارث الإنسانية في مصر وغيرها من الدول الإسلامية.
وعلى المستوى الاقتصادي فإسهاماتها الاقتصادية عن طريق المشروعات التنموية التي تقدمها بعض هذه الجمعيات تؤثر في الاقتصاد القومي بضخ رأسمالها في شرايينها، وما يترتب عليه من خلق فرص عمل للشباب، مما يسهم في التقليل من نسب البطالة، بالإضافة إلى التخفيف عن كاهل ميزانية الدولة برعايتها قطاعات خارج إطار الدعم.
أما تمويل هذه الأنشطة فتكون من التبرعات التي يقدمها القادرون مادياً كمساعدات منهم، سواء من مصر أو من الخارج، وينظم القانون قبول هذه التبرعات، وأيضاً الزكاة.
وتعتبر جماعة الإخوان المسلمين أول من ابتكر فكرة الأسواق الخيرية في مصر؛ لتقليل العبء المادي على المواطنين جراء ما يحدث من ارتفاع للأسعار بشكل كبير.
ثانياً: أثر قانون الجمعيات الأهلية على الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المصري
حسب الباحث الاقتصادي، عبد الحافظ الصاوي، تمثل الجمعيات الخيرية، التي أغلقها السيسي بإقراره لقانون "الجمعيات الأهلية"، شبكة ضمان اجتماعي واسعة للفقراء، تقوم بدور كبير في سد حاجة الفقراء، ذلك أن قيمة العمل الخيري حسب تقديرات الحكومة المصرية في 2008/2007 بلغت 17 مليار جنيه، وقد تجاوز هذا الرقم بكثير في السنوات التي تلتها.
وحسب الصاوي فإن "إغلاق الجمعيات الخيرية، ساهم بشكل كبير في تعرية دور الدولة بشأن حماية الفقراء، وحتى الجمعيات الخيرية القائمة حالياً لا تعمل بالكفاءة التي كانت عليها، لأنها تحت رقابة أمنية مشددة، ويُحجم الكثير من المتبرعين عن دعم تلك الجمعيات، خشية الملاحقة الأمنية أو الاتهام بتمويل الإرهاب".
ويعتبر التصديق الرسمي على هذا القانون يضع نهايةً شبه حتمية للعمل الخيري في دولة كان يتحمل هذا القطاع الأهلي فيها الجزء الأكبر من التزامات الدولة تجاه مواطنيها الفقراء، فطيلة العقود الماضية حلت الجمعيات الأهلية كـ"حكومة موازية" تسعى إلى علاج جوانب القصور في الدور المجتمعي للحكومة، لا سيما أنها كانت تغطي المناطق البعيدة داخل الأقاليم والنجوع التي تسقط في كثير من الأحيان من حسابات الأنظمة الحاكمة.
فقد عوضت تلك الجمعيات غياب دور النظام في تقديم الخدمات المجتمعية للفقراء، من علاج وتعليم وتنمية مجتمعية ودعم مادي، إلى غير ذلك من تلك الخدمات التي تفوقت فيها تلك الجمعيات ونجحت من خلالها في تحمل الجزء الأكبر من أعباء الحكومة.
ذلك أن 25 مليون مواطن مصري يعانون من الفقر بحسب تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وهذا ما أكدته التقارير الصادرة ما بين 2016 إلى 2020 عن صندوق النقد العربي والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء الحكومي المصري عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية للمواطن المصري.
فقد دلت على مستويات متدنية، خصوصاً نسبة البطالة والفقر المتعدد الأبعاد والفقر المدقع، أما عن السياسات الحكومية فقد اعتمدت طوال سبع سنوات على الاستدانة من الداخل والخارج والجباية لتوفير موارد مالية لا يشعر المواطنون بها، إضافة إلى أن "أزمة كورونا" كشفت فشل الدولة الذريع في تقديم أبسط الخدمات للمواطنين، وهي تأمين العلاج، سواء في المستشفيات العامة والخاصة أو حتى خلال العزل المنزلي، وهذا الفشل لمسه المصريون جميعاً، سواء كانوا أغنياء أم فقراء.
وبالنسبة لبرنامج تكافل وكرامة، فهو حسب الباحث الاقتصادي، عبد الحافظ الصاوي، برنامج يعطي الحد الأقصى للمعاش 450 جنيهاً للأسرة وليس الفرد، وهذا يعني أن الأسر المكونة من فردين، ترزخ تحت خط الفقر المدقع، وحسبه برامج الحماية الاجتماعية ليست مجرد عدد كمِّي من البرامج، بل يجب أن تمثل سياجاً حقيقياً للمستفيدين منها، يحميهم من حياة غير كريمة، ويحميهم من الأمراض، ويدفعهم للتعليم الصحيح، ويؤهلهم لسوق العمل، لكن الواقع غير ذلك.
خاتمة
كانت الجمعيات الخيرية الإسلامية أهم مؤسسات المجتمع المدني التي أثبتت فاعلية في المنطقة العربية عامة ومصر خاصة، لما لعبته من دور في تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي وتخفيف عبء آثار الأزمات الاقتصادية عن كاهل المواطنين في الدولة. ولكن الحسابات السياسية والأمنية في النظم التسلطية العربية، وقفت عائقاً أمام نضج وترسيخ هذه التجارب كسن قانون الجمعيات الأهلية في مصر.
ورغم ما لهذه السياسات من تأثير سلبي على جمعيات حقوق الإنسان وشرعنتها لمزيد من تضييق الخناق على المنظومة الحقوقية داخل مصر، فإن التأثير الأكثر خطورة يتمثل في مصير الملايين من الفقراء، المعتمدين على الجمعيات الخيرية في تدبير شؤون حياتهم الاجتماعية والاقتصادية. وهذا ما كشفته التقارير كما سبق ذكره، فالنظام المصري لم يجد بديلاً لسد الفراغ الذي تركته هذه الجمعيات، هذا الفراغ الذي من شأنه زيادة بل ترسيخ الشرخ بين النظام والشعب، خصوصاً في ظل السياسات المتبعة في تسيير شؤون الدولة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.