سأسرد لك الآن إحدى أبشع وأكثر القصص المأساوية التي تعرضت فيها المرأة والطفولة لوحشية العالم، وهي قصة الطفلة "البرّية" سوزان وايلي!
في البداية قد تبدو لك قصة حياة سوزان مشابهة لتلك القصص الخيالية التي ترويها أساطير البشر القديمة، حيث يتعرض فيها الأطفال لأبشع أنواع الظلم والكراهية والتوحُّش، ليتم إنقاذهم في النهاية عن طريق مخلوق خرافي أو وحش سحري، أو حتى جنيّ مختبئ داخل مصباح، ولكن في قصة سوزان، والتي تحدث في واقعنا الإنساني، لم يكن هناك مكان للسحر أو الخرافة، فكل ما كانت تحتاجه هذه الطفلة فقط هو بعض الشجاعة كي يتم إنقاذها من مصيرها المأساوي، ولكن يبدو أن حتى شيئاً بديهياً كالشجاعة يصعب العثور عليه في عالمنا المعاصر، الذي أصبح عبداً للمادة.
الطفولة الملعونة
وُلدت سوزان عام 1957، لوالد يدعى بكلارك وايلي ووالدة تصغره سناً بفارق كبير، وهي إيريني أوجلسبي، والتي كانت لاجئة من الولايات الجنوبية التي أصابها الجفاف خلال فترة الثلاثينيات في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استقرت في لوس أنجلوس، وهناك قابلت زوجها كلارك.
كان كلارك عاملاً ميكانيكياً سابقاً، تمت تربيته بواسطة والدته في بيوت الدعارة التي كانت تعمل بها، بالتالي فقد كلارك نموذج الأب في حياته، وهكذا أصبحت كينونته الإنسانية مختلة وقائمة على نموذج الأم والذي كان فاسداً مسبقاً.
لم يُرد كلارك وايلي أن يحظى بأطفال أبداً، كان يكره الضوضاء التي يتسببون بها حينما يبكون، ويصيبه وجودهم ووجود المسؤولية المصاحبة لهم بالاشمئزاز، لذا حين وُلدت طفلته الأولى، تركها وسط البرد في جراج منزله لتتجمد حتى الموت بسبب بكائها المستمر.
ثم حين وُلدت سوزان وأخوها جون، قرر أن يغيِّر من أسلوب رفضه لوجودهما، فلم يقتلهما، ولكن عرَّضهما لأبشع أنواع التعذيب، وقد عانت سوزان، لأنها فتاة، أضعاف ما عاناه أخوها جون.
رغم كون كلارك مختلاً بشكل أساسي، فإن موت والدته خلال عام 1958 بسبب سائق سكير قد أفقده عقله بشكل كلي، ففقدان تلك العلاقة السامة التي كان يحتفظ بها مع والدته وموت نموذج الأم بالنسبة له، أشعل جذوة النار داخل عقله ليحوِّله لأحد أبشع الوحوش البشرية في التاريخ.
فقرر كلارك من تلقاء نفسه أن ابنته سوزان معاقة ذهنياً، وأنها لن تكون ذات نفع للمجتمع، وهكذا نفاها عن عالمها المجتمع تماماً، ولم يسمح لأي شخص بالاقتراب من الفتاة أو التفاعل معها، وتركها داخل قفص صغير أسود، مقيدة إلى كرسي حمام للرُّضَع ثلاثة عشر عاماً كاملة!
خلال تلك السنين البشعة كان كلارك دائماً ما يعتدي عليها بالضرب كرد فعل على صدور أي فعل أو أية حركة منها، كان ينبح خارج باب قفصها كحيوان بري ليزرع الخوف الدائم داخل عقلها من العالم خارج حود القفص، وقيل كذلك إنه كان يعتدي عليها جنسياً، بالأخص بعدما اكتشف ميولاً منحرفة داخل عقله تجاه الرجال والأطفال.
من بين كلماتها التي عانت كي تستطيع تشكيلها في تعبير يائس عن ذكرياتها، قالت سوزان:
"أبي ضرب ذراعي، عصا كبيرة، سوزان تبكي، بصق عليّ، ضرب وجهي، أبي ضربني بعصا كبيرة، أبي جعلني أبكي".
وهكذا عاشت سوزان ثلاثة عشر عاماً في ذلك الكابوس، بينما أمها كانت شبه عمياء، تعاني من حالة مزمنة من الجبن والخوف، واستغرقها الأمر ثلاثة عشر عاماً كي تستجمع شجاعتها، حتى تقرر في أحد الأيام أن تحرر طفليها وتهرب بهما خارج المنزل.
في عام 1970 تعثرت والدة سوزان بمكتب خدمات اجتماعية ظنت أنه يقدم مساعدة لمصابى العمى، وخلال زيارتها للمكتب لاحظ العاملون تلك الفتاة الغريبة التي تمسك بيدها وتتحرك كحيوان بري، وتسير كأرنب، بينما تراقب عالمها المحيط بفضول غريب ليتم إبلاغ السلطات بعدها مباشرة.
محاكمة الوحش ومصير الأميرة
مباشرة تم القبض على كلارك كايلي وفتح قضية ضده للاعتداء على أطفاله، لكن الرجل رغم قسوة الوحوش التي يمتلكها قلبه، كان هشاً من بين أعماقه، فلم يحتمل الانتظار حتى يوم محاكمته وانتحر تاركاً ملاحظة وراءه، كتب فيها: "لن يفهم العالم أبداً".
بمجرد صعود قضية سوزان لضوء العالم، أخذتها السلطات وقامت بإيداعها داخل مشفى للأطفال، وهناك قال عنها الأطباء إنها "أكثر طفل مدمَّر على الصعيد الجسدي والنفسي والعقلي رأوه في حياتهم".
ولكن حالة سوزان سرعان ما أسَرت لب العلماء والباحثين والأطباء، الذين سارعوا ليضمنوا مكانهم وسط المجموعة التي ستتابع وتدرس حالتها كي يحصلوا على سبق علمي لم يشهده العالم من قبل.
فحالة سوزان كانت نادرة بشكل لا مثيل له، فهي تمثل حقلاً لاستكشاف آثار العزلة التامة عن العالم المحيط منذ الولادة، وهكذا تمت دراسة سوزان لأربع سنين كاملة منذ عام 1971 إلى عام 1975.
وخلال هذه السنوات الأربع، أصبحت سوزان مركز حياة هؤلاء الباحثين، حيث قالت سوسي كيرتيس عالمة اللغويات التي كانت مختصة في حالتها: "لم تكن اجتماعية أبداً، وتصرفاتها كانت عجيبة، ولكني كنت أسيرة جمالها حقاً".
لكن رغم تلك الكلمات اللطيفة للباحثة سوسي، كانت حالة سوزان اختباراً حقيقياً لمدى أخلاقية العلاقة بين الباحث وموضوع بحثه، وكيف يمكن للعلم أن يتجرد من كل ما هو أخلاقي غير مراعٍ لحالة طفلة تعاني مع كل دقيقة تمر في حياتها.
فسوزان خلال هذه السنين الأربع أصبحت تعيش مع الباحثين المختصين بحالتها بشكل يومي وأحياناً كانوا يقسمون نظام حياتها بينهم كحيوان أليف ما، مما منعها من الاستقرار وجعل حياتها في حركة دائماً معرضة بذلك لمزيد من الأذى، فقد كانت تمثل لهؤلاء الباحثين كنزا يضمن لهم المجد في المجتمع العلمي.
التجارب على سوزان
حتى حقبة الستينيات من القرن الماضي، كان هناك اعتقاد سائد في المجتمع العلمي بأن الطفل لا يمكنه تعلم اللغة الأساسية بعد البلوغ، ولكن سوزان كانت الدليل على كون هذا الاعتقاد السائد مغلوطاً، فسوزان لم تتعلم كلمة واحدة خلال السنين الثلاثة عشر الأولى في حياتها، ومع ذلك استطاعت بسبب فضولها وحماسها تجاه العالم حولها أن تتمكن من تعلم اللغة، بل اكتشف الباحثون أنها كانت قادرة بشكل ممتاز على التواصل مع محيطها، ولكن مشكلتها الوحيدة كانت في تعلم قواعد اللغة ذاتها وبنية الجمل، والذي بدا شبه مستحيل في حالتها.
"كانت ذكية، تقوم بترتيب مجموعة من الصور كي تخبرنا من خلالها بقصة ما، وكانت أيضاً تقوم بصناعة أشكال معقدة بالعصي، والذي كان دليلاً على امتلاكها ذكاءً ملحوظاً وأن هناك أملاً بالنسبة لها".
أثبتت سوزان أن قواعد اللغة الأساسية لا يمكن تعليمها للأطفال إلا عن طريق التدريب المستمر بين سن الخامسة والعاشرة، ولكن أثبتت أيضاً أن اللغة نفسها والكلمات والقدرة على التواصل يمكن تعلمها في أي سن.
رغم التقدم الذي كانت تحرزه سوزان مع الباحثين، فإن تلك المجموعة بدأت بالتفرق حول أيهم أحق بتملك الفتاة وأيهم أحق بتنفيذ تجاربهم عليها، مما أدى لعدة مشاكل بالظهور داخل الفريق المسؤول عنها، وهكذا في عام 1975 عادت سوزان لأحضان والدتها.
وبعد بضعة سنين وخلال عام 1979 قامت والدتها برفع دعوى قضائية ضد فريق الباحثين متهمة إياهم بمحاولة استغلال الفتاة لأجل المجد والشهرة، وفي عام 1984 حكم القضاء في هذه القضية وتم قطع كل سبل التواصل بين الفتاة وفريق الباحثين.
مصير سوزان
لم تستطع والدة سوزان الاعتناء بها بشكل دائم، وهكذا غادرت المنزل متجهة لمنازل الرعاية، حيث تم تبنيها من قبل عدة أسر، تعرضت مع بعض تلك الأسر لسوء المعاملة والذي تسبب في تدهور حالتها مجددا ولم تستطع أبداً أن تتحسن من جديد.
اليوم، قليل فقط ما نعرفه حول مصير سوزان وايلي، فبمجرد أن عادت الفتاة لوالدتها، عزلتها الأم عن كل محاولات دراسة حالتها، وبالتالي فُقد الاتصال معها.
في عام 2003 توفيت والدة سوزان، وفي عام 2011 توفي أخيها جون، وكذلك توفيت قريبتها باميلا في عام 2012، وربما لا أحد يعلم أين تعيش الآن أو ماذا تفعل.
ولكن خلال مقابلة مع الصحفي روس رايمر، قال إنه استطاع الوصول إليها خلال يوم عيد ميلادها السابع والعشرين، ووصفها بـ"امرأة ضخمة، تتفوه بكلمات غير مفهومة، وتعلو وجهها نظرة أشبه بنظرة بقرة مذهولة من ضخامة العالم، عينها كانت تثبت على كعكة عيد ميلادها بصعوبة بالغة، وشعر رأسها كان فوضوياً وجعلها أشبه بنزيلة في مشفى للمجانين".
قصة سوزان ربما تصل لنهايتها في أي وقت الآن، أو ربما وصلت لنهايتها بالفعل ونحن لا نعلم، ولكن تلك القصة يجب ألا تغادر عالمنا في صمت، بل يجب أن نتذكرها في مثل هذه الأوقات من كل عام، بينما نتذكر كل النساء اللاتي سقطن ضحايا لظلمة هذا العالم، علينا أن نجعل قصة سوزان خالدة في التاريخ، فربما نمنحها بذلك بعض الحب والاهتمام التي افتقدته في سنين حياتها الطويلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.