منذ قرون خرجت دول الغزو من مستعمراتها بشكل عام تجر أذيالها، إما مرغومةً مدحورةً، وإما رغبة منها، بعد اكتشافها عدم جدوى خطط البقاء الأبدي في ديار نهبتها وخرّبتها، غير أن كيفية خروجها وانسحابها يخفي بين طياته من التكتيك ما لا يخفى على عاقل، وهو ما لنا فيه حديث تلو حديث، وهو ما سيكشف عن الدور الوظيفي لفرسان المحتل في الأوطان العربية.
بعقلٍ قرر المحتل تكليف غيره بوظيفته الاستعمارية، وقرر أن تكون الوظيفة من نصيب فئة بعينها؛ لذلك كان لا بد من التفكير في كل تفاصيل الوظيفة، وحتمية تشكيل من سينفذها، والكيفية التي سيشكل بها أعضاء التنفيذ وكل ما تعلق بها من تفاصيل، بيد أن ما وراء ومغزى التشكيل والتكوين كل ما في صالح المحتل، وما يدر عليه النّفع، ووفق أجنداته، وناموسه، ووفق قيمه ومقرراته، وخططه، واستراتيجياته، وحاجياته وخصوصياته، سيشكلهم وفق رؤياه حتى النخاع، وأثناء عملية التشكل سيستعمل في ذلك كل إمكاناته، وطرقه منها ما يتعلق بالخلفية الثقافية؛ أي التأثير عليهم فكرياً وثقافياً وقيمياً.
وأيضاً سيكون للوعود المستقبلية جانب كبير، ومن بين الوعود على سبيل المثال لا الحصر: أن يعد الفرسان بالمستقبل الباهر، وأن يمتلكوا مستقبل هذه البلاد والعباد، وما عليكم سوى الخنوع وسلك السبيل المرسوم من جانبنا، والسمع والطاعة العمياء، والسهر على تنفيذ الأجندات. وبعدما تتلمذ الفرسان على يد المحتل لحمل مشعل الدمار والخراب والتبعية الشاملة، وبأصنافها الغابرة حان أوان القيام بالدور الاستخلافي؛ حيث تقوم هذه الشلّة بدورها المنوط بها وعلى أكمل وجه وبعناية فائقة وبكل دقة، وستحرص على ألا تذهب إلا حيث منفعة المحتل، وما يسد رمقه الاقتصادي، ويشدّ عوده السياسي، وستكون نقاط ومراكز التأثير، والقيادة، والمؤسسات الفاعلة في صناعة وتكوين الشعوب هدفها الأول، وبالنسبة لها الاستحواذ على مؤسسات صنع القرار كالبسملة قبل أيّ نشاط وحراك.
خرج المحتل فماذا فعل؟
إن خروج المحتل الغاصب لم يكن بتلك الصورة الدرامية التراجيدية الموجودة في مقررات وملحقات الدراسة، أو أدوار السينما ومهرجانات الثقافة الوطنية، والعالمية، بل خرج ولم يخرج!
لم يخرج بحيث ترك من مبعده إرثاً ثقيلاً، ومنه سلّم مفاتيح البلاد والعباد لِخُلفائه (فرسان المحتل)، الذين ورثوا عنه السلطة والاقتصاد والقانون والمال والثقافة والجغرافيا. انسحب وترك فرساناً أسندت لهم مهمة إكمال المشوار الصعب، وذلك ما يحملنا على القول بأن المستعمر جمع دفاتره والطّمأنة حاله، وكيف لا وقد وكّل الأمر إلى خير وكيل من حيث كل ما يدعم اقتصاده وسياسته واجتماعه وثقافته.
في بعض المستعمرات الإفريقية كان المستعمر يشيد المدارس ويجلب المدرسين ويبنى دور العبادة، بل ويدعم أيديولوجيات، ويساهم في نشاطها ويمهد الطريق أمام أتباعها، وفي بقاعٍ أُخرى من السمراء المنهوشة كان يتدخل ليُّهدّئ من شدّة وطأة صراعات واحترابات داخلية، بل كان هو القاضي الذي يلجؤون إليه ليقضي بينهم بالأمن والسلام، وهذه حسب روايات الأجداد. ترى هل كان يفعل ذلك من أجل خدمة إنسان المستَعْمَرة؟ من أجل سواد عيون ساكن المستعمرة؟ بل كان يفعل ذلك من أجل شعبيته، من أجل التبعية الثقافية ومدى معرفته بمقدرتها على التحقيق، وأن المستقبل تحت أقدامها!
عمل المستعمر على ضرب البنية المجتمعية من خلال العمل على تفكيك أسس المجتمع والأصل الأسري وتحكم في ملف الأنساب، والأعراق، وأحدث فيها هرجاً رهيباً؛ حيث قطع الجذور الانتسابية والأصلية؛ فالمواطن اليوم في بعض البلدان العربية لو قرّر البحث عن أصله وفصله، فلن يتمكن من ذلك، وهذه وحدها كارثة؛ لأن المستعمر قبل أن يغادر أحدث فوضى في الأصول والأنساب، فغيّر أسماء العائلات، وأوجد الألقاب بعد أن كانت الأسماء الثلاثية التي تمتد كسلسلة أصولية عبرها يمكنك أن تصل إلى أحد أبويك للذي بديار الحجاز.
السؤال هو: فيمَ يخدم المستعمر ذلك؟ هو يريد الفوضى في كل شيء بما فيها فوضى الأنساب والأعراق، وهذه الأخيرة لها انعكاس خطير في شأن وحدة وتجانس وتضافر المجتمع الواحد، والمجتمع الأكبر (الأمة) ولها إيلام نفسي على مستوى الفرد، ورجفان وهزّة تصيبُ أرضية التماسك الأسري، كما أنّه يريدها تبعية، وأن تبقى هذه المستعمرات تابعة له بإطلاقٍ؛ لذلك يسعى بأن تكون صوراً له لكن غير طبق الأصل، فمسألة الألقاب ما هي إلا سبيل من أجل ذلك، وما هي إلا لبنة من بناية يُريدها المستعمر شامخة وحسب.
من خدمات الفرسان للمحتل
قدّم الفرسان للمحتل خدمة على قدر معتبر من الأهمية؛ حيث حالوا بينه وبين عظيم، محققاً خسائر كان سيتكبدها لو بقي موجوداً أو فكر بالرجوع من جديد، ألا وهي خسارة الأرواح والمعدات، فبسياستهم، وبوجودهم على سدّة الحكم، وباستلامهم المهمة الشّاقّة لن يخسر الغاصب لا الأرواح ولا المعدات الهائلة، بل بقليل القليل سيحقق كبير الكبير، سيسطر الإنجازات العظيمة ولن يحتاج لطلقة بارود واحدة، سيبدد الأرواح ويأخذ الأرزاق ولن يخسر روحاً واحدة، وكيف ذلك وهي حرب ضروس بالوكالة.
من خلال حديث الواقع الذي لا يضع مجالاً للشك حول ما يقدمه فرسان المحتل للمحتل من خدمات جليلة تقرّ عينه، وتريح باله، وتثلج صدره، وتُحكِّم سلطانه، فمهمة إنفاذ قراره الثقافي ستنفد وعلى أكمل ما يكون، وستسن قوانين دولة ما بعد المحتل تماشياً وتماهياً مع فلسفة مُشرِّع الغاصب المحتل، ومن باب هالة المتغلب.
ستتفتح عقول المواطنين، لكنه تفتح مذموم، تفتح انسلاخ من القيم وبُعد عن الهوية، سيعمل الفرسان بكل قوتهم بلا كلل ولا ملل، وبميزانيات مفتوحة سخية من السيد المسير عن بعد (المحتل) بهذا الجهد والدعم السخي، سيفتحون ما لم يستطع هو بعتاده وجيوشه الجرارة أن يفتحه، وسيحققون من الإنجازات والانتصارات وفي أقصر مدى ما لم يستطع هو تحقيقه في سنوات وقرون مديدة.
سيقدم الفرسان للمحتل خدمات أقل ما يقال عنها استراتيجية، فممّا تعني الاستراتيجية ببساطة التخطيط في دوام النفع، ووجود منافذ عطاء لا تنفد على مدار الزمن، هي كينونة مورد مستقبلي لا ينضب، وهذا ما فعله الفرسان حرفياً؛ فالاقتصاد كما أرادوه، وكذلك الإعلام التابع لهم، ولو توقف الأمر عند التبعية لكان فيه نقاش، لكن الأمر ذهب إلى أبعد من ذلك؛ حيث ربطوا اقتصاد الأوطان باقتصادات تلك القوى الاستعمارية الاسترزاقية، وجعلوها مصدراً لدعم وتقوية تلك الاقتصادات، بل وتبعية سوقية مطلقة، وقدموا الموارد الثقيلة النادرة مقابل ما لا يقارن بها من أي اتجاه، بتبعيتهم سادت سلعة المستعمر، وذاع صيت الماركات الاستعمارية من كل حَدَبٍ وصوبٍ، ومن كل شكل ولونٍ، واحتكرت السوق بفضل تنفيذ الفرسان المخلصين لأجندات الغاصبين.
سياسياً
سياسياً رضي المستعمر أيما رضاً عن وكلائه المجنّدين، إخلاص أبهر العدو؛ حيث رأى منهم معنى السياسة بالنار والحديد؛ فقد حكموا الشعوب من بعده حكم الجاهلية الأولى، لا صوت يعلو فوق الصوت الواحد، أحادية الإدارة، الدولة تدار على مختلف الأصعدة من شخص واحد، من مجموعة واحدة، من حزب واحد، ومدى الحياة!
الديمقراطية حبر على ورق، الديمقراطية هناك لدى السيد (الغرب)، أما هنا في دولة ما بعد الاستعمار فلا أحد يعرف مفهوم الديمقراطية أصلاً؛ إنما الحكم بطريقتين لا ثالثة لهما، إما بالتسلق أو بالتزوير، وشراء ذمم المعدومين، ناهيك عن الشعارات البهتانية الترويجية التي تحمل معاني ديمقراطية، لكنها كما أسلفنا تبقى حبراً على ورق، بمجرد أن تحكم السلطة تنقلب الدولة من شعار الجمهورية الديمقراطية، أو التكنوقراطية الحمورابية، إلى ملكية أزلية، صحيح قد تُعرض ديمقراطية الغرب وتقرأ بنودها، لكنها لن تلازم العرض والقراءة!
يواصل الفرسان مشهد الإبهار؛ حيث تبدأ قصص وروايات ملحميّة في معنى الحكم الاستبدادي، وتستمر سلسلة جبروت وطغيان المستعمر، بل إن قلنا: إن استبداد الاستعمار أمام استبدادهم لا شيء يذكر فلا شطط ولا مبالغة، ففي الدولة الحديثة، دولة ما بعد الاستعمار، تكبح النفوس الأبية، وتطمس الحقوق الطبيعية، وتسكت الحناجر الحقيقية، ويُسكب مداد الحرية، وتشيّد جسور العبودية، ويُتفنن في عمارة جدران العزلة الرمادية، وطرق السحل والتنكيل، وتبدد الحريات، وتخصص الممتلكات العمومية، وتمتد يد البطش والتنكيل لمجرد إبداء الرأي، لمجرد المعارضة التي هي بالنسبة لهم الشيطان الأوحد الأعظم، وإن لم تكن على هوى المستبد فمكانك المستحق خلف البحار، ولا رأفة ولا شفقة.
التربية والتعليم
لا يخفى الدور الكبير والعظيم الذي يمارسه قطاع التربية والتعليم على صعد الإنسان المختلفة، من صناعة الإنسان، وتشكيل وعيه وفكره، وتمكين عقله، وسويّة روحه، والمحتل لم يصبح كذلك من فراغ؛ إنما من امتلاك مصادر القوة، ومعرفته بما يوسع مساحتها، وبما يؤدي إلى القوة ونقيضها، لذلك يعي جيداً ما هي التربية وما هو التعليم؟
فلم يغادر قبل أن يقرر تبعية القطاع ولو بصورة من الصور، وتسليم وظائف القطاع لفرسانه ليكملوا المشوار، وفعلاً بدأت الشلّة المستخلفة تبهر المستعمر فيما تفعل بهذا القطاع من استيراد مناهج جاهزة، ومن خفة فحواها، ومن غطرسة لغة بعينها على باقي اللغات، حتى امتد جبروتها ليصل للغة الأم؛ ففي كل المستعمرات، بل في بعضها، غدت هي الأم والأب والجد، وأضحت الترجمان الأوحد، وغزت كل المجالات والتخصصات إلى درجة عزل الحروف والمصطلحات العربية علمياً ورياضياً، وامتدت اليد الخائنة شراسةً لتصل كل العلوم، بما فيها علم التاريخ، لتعدل فيه ليتماشى مع رؤية المحتل وما تطرح القوى الاحتكارية العالمية.
في الأصل كل المجالات فيما بينها علاقة طردية، (تأثير وتأثر)، فالسياسة تؤثر على التعليم والثقافة والإعلام، والعكس صحيح، وبالتالي أيّ ضرر في مجال معين حتماً سينعكس بشكل من الأشكال على بقية المجالات، لكن يد المستعمر أصرت على أن تقف على كل مجالٍ على حدة حتى تعطيه حقه التخريبي الكامل، وهذا ما يعني أنها بطشت بكل المجالات والتخصصات، بما في ذلك المهمة منها كالثقافة؛ حيث عملت بكل الطرق والوسائل والأفكار والمناهج على ترويضها، وفق أجندات وإملاءات المحتل ودور الثقافة في عقل وفكر الإنسان ومستواه الثقافي والقيمي والأخلاقي، بما لا يحتاج توضيحاً ولا تأكيداً.
فهي بدَهياً أصل من أصول تكوين الإنسان؛ لذلك عكف عليها الفرسان كما عكفوا على غيرها؛ من أجل تحقيق مآرب الآخر، واستعملوا في ذلك أدواتها الكثيرة من صحافة ومناهج تعليمية، وكل ما تعلق بالفن من قريب أو بعيد، وكتب ومجلات ومهرجانات ومسارح وتمثيليات… إلى غير ذلك مما هو متعلق بالثقافة ودورها.
كل ذلك من أجل طمس معالم الثقافة الحقة، من أجل المساس بالقيم والأخلاق والأعراف، وحتى الدين، كل ذلك من أجل صناعة إنسان وفق ما تريد السياسات الاحتكارية، وفعلاً قطعوا شوطاً كبيراً في هذا الباب، باب المساس بقيم وثقافة المواطن العربي المسلم.
الإعلام
يلعب الإعلام دوراً مهماً وبارزاً وفعالاً في تأكيد وتثبيت ما يُطرح في بقية المجالات؛ فهو كالحكواتي تماماً، الذي عن طريق ما يملك من بلاغة وبراعة وأسلوب فني يمكن أن يروج لمحتواه فقط بجعله في قالب فني؛ فيَصِل. كذلك هو الإعلام عبارة عن حكواتي ماهر ومبدع لمشاريع فرسان المحتل الغابر، ومنه تعبر كل حملات التشهير والترويج، والتسويق لما تم الاستخلاف فيه! وبالتالي فالإعلام يشرح بامتياز المادة ككل، ويعمل على إعطائها شرعية من خلال بثها بشكل صريح ويومي على مسامع وأنظار المستهدف (المواطن)، كما ينظم ويرتب فرص الظهور، فهناك الأولى للظهور من غيره؛ حيث تكون أولوية الظهور لمن يحمل بذور ثقافة المستعمر لمن يأتمن الفرسان، كما يحرص على طرح قلّة الحياء، والتفاهة في كل شيء؛ التفاهة في المحتوى الإعلامي وفي مستوى من يتصدر وسائل الإعلام المختلفة، ناهيك عن التخلف الإعلامي؛ فنحن دول حديثة عهد بالإعلام في الأساس؛ فبعض المستعمرات لم تعرف شبه الإعلام إلا في السنوات الأخيرة. وما وراء ما نرى الآن من انحطاط ونزول، وسفه وتفاهة في الإعلام قاطبة سوى نتاج سياسات وعقول فرسان المستعمر.
الذي يظن أن المحتل خرج بصورة نهائية أو حمل أغراضه وانصرف بلا عودة فظنه نرجعه إلى تفسيرين، غير أن هذين التفسيرين في نهاية المطاف لهما علاقة ودّيّة وحميمية بالمحتل وفرسانه. أما أولهما: يَرجعُ لعدم وعيه بما يحيط به من حقائق، وغياب الوعي هذا يرتبط بشكل من الأشكال بالجهل الممنهج في حقه منذ الاستعمار إلى ما بعده (حقبة الفرسان)، وأما التفسير الثاني: فيصب بشكل مباشر في سياسات الفرسان؛ أي إنه وقع عرضة لتدبير وسياسة الفرسان التي عصبت عينيه، ما جعله يرى أنهم أبطال فاتحون، وعقلاء فطنون، وحكماء مدبرون.
بواسطة إمكانياتهم الجبارة المدعمة من قوة بطش وتنكيل، وقوة إعلام، وسياسات تدبيرية من شأنها تخدير الضعفاء؛ استطاعوا أن يسيطروا على عقله، ويحكموا فقهه، ويوجهوا قراره، ويعيشوا باقتصاده.
وفيما يمكن أن نختم به المقالة أن المحتل الغاصب مَلك رقاب الناس، وبسحرته أوهم الكثيرين، ولو بشكل من الأشكال، أنَّه وإياهم (الفرسان) على حق مبين، ومن يعتقد ولو لبرهة أنه حمل أشياءه وانصرف، فكما أسلفنا دارت به رحى التغييب مع التجهيل مع التتفيه. أردفُ ما تقدم: المستعمر لم يخرج يوماً، بل ما زال موجوداً إلى يومنا هذا، إلى لحظتنا هذه، بوجدانه، وفلسفته، وثقافته، وتعليمه وإدارته، وهذا هو الوجود بمعناه الحقيقي، فكينونتك أن توجد ثقافةً وفكراً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.