كأس العالم: لعنة أم غاية؟
تحولت القصة إلى سياقٍ مُختلف؛ حيث يتطلب من الفتى الصغير أن يُقارع إرث مارادونا.
كيف لا، وبلدة دييجو رحلت عن تصنيفات الفيفا، غابت شمسها عن نهائي كأس العالم، سُحقت في بطولة كوبا أمريكا، لكنها في الوقت نفسه عادت مع ميسي، عادت لتصل إلى نهائيين مُتتاليين في كوبا أمريكا، وتصل إلى نهائي كأس العالم، في 3 سنوات متتالية، حيث قدم ميسي فرصة تاريخية للظفر بالكأس بعد كأس باتيستوتا في 1993، بعدما قدم بطولة ليست بالخرافية لكنها ذات بريق مُختلف، وهُنا رفض هيجواين الهدية، وسجل ميسي وأهدر هيجواين، فتم توجيه أصابع الاتهام للأول، وبعدها قدم ميسي بطولة تاريخية بأتم معنى الكلمة من حيث الأداء الفردى، وأهدر ركلة ترجيحية، فتم توجيه أصابع الاتهام من جديد له.
ميسي إن كان عليه الذهاب صوب موقعة مُنتظرة، فبكل تأكيد عليه أن يذهب إلى الجحيم، عليه أن يذهب لمُصافحة مُدرب وضعه في وجه الانتقادات، ولاعب أهدر فرصة وقالوا إن ميسي لم يُسجلها في الوقت الذي كان صانعها بالأساس هو ميسي نفسه، وبين هذا وذاك، تخشى الكرة دوماً ممن "إذا قال فعل"، والأقوال تكاثرت، وتحولت إلى أكاذيب، أرجوحة يجلس عليها كل من يزور الحديث، ذاهباً أم باقياً.
ومن طرائف الظروف، أن الوقت الذي تحدث به تلك الأمور، هو الوقت نفسه الذي قيل به إن ميسي من المُستحيل أن يفعلها بمفرده، أو لن يفعل على الإطلاق، وبالتوازي، في برشلونة، الأرجنتين، الأرجنتين، برشلونة… وهكذا.
للقصة دائماً نهاية، إلا تلك، لم ولن تنتهي.
لماذا خسرت الأرجنتين ولن تفوز أبداً؟
دانييل أركوسي، من لاناسيونال يتحدث: "كلاعب، إنه رقم واحد على مُستوى اللعبة، لكن مدحه مُبالغ به، نقده لا يحصل عليه، كان يتمادى كثيراً، مارادونا كشخص تخطى كُل الحدود التي تسنها القوانين".
مارادونا يُشير بأصابعه للكاميرات، مارادونا يرتكب الحماقات، مارادونا يظهر عارياً، مارادونا يتعاطى المُخدرات، جميعها، جميعها تفاصيل لم تُنقص من قيمته كأسطورة، لقد وُرثت أسطورة مارادونا دون ما يحدث مع ليونيل ميسي، وعلى الرغم من أن الواقع المارادوني يبدو كارثياً، مُقارنةً بتخيلات كارهي ليو، لكن الأخير هو من يدفع ضريبة هذا كُله، دائماً ما يدفع ضريبته.
لقد ورثوا مفهوم أن اللاعب يُحقق بطولة كاملة بمفرده، فاقتنعوا بأن ميسي مع مجموعة من اللاعبين ضعفاء المستوى، سيحقق كأس العالم، في الوقت الذي أهدروا به فُرصة ذهبية دون ميسي، للتفوق في التصفيات، وظل ميسي أيضاً مُطالباً بأن يُنقذ الأمر، حتى أتت مرتفعات كيتو وشنقت أحلام ميسي، بل هو من شنقها، ووضع الأرجنتين في مونديال روسيا.
بعد سنوات وسنوات، من حديث أحد الحاضرين في المونيومينتال: "انظر إليه، إنه لا يستطيع أن يركل الكرة، من هو ليونيل ميسي ليُقارن بدييجو مارادونا؟".
خرج هو، وآلاف الأرجنتينيين لمطالبته بالعدول عن قرار الاعتزال، بعد سنوات بدأتها بها لعنة الديكتاتورية، سَرقوا بيرو، قائم رينسبرينك، هدف بوروتشاجا، ظُروف لم توجد مع ميسي، لولا هدف بورتوشاجا، لمَا سَمعنا أن مارادونا حقق كأس العالم بمفرده، أو لم يكُن له أن يُحققه من الأساس.
إن الأرجنتين، التي خسرت 5 نهائيات، وصلت إلى 3 منها في حقبة ليونيل ميسي، لم تنظر إلى نفسها في المرآة، ولو لمرة واحدة بعين العدل، لتعرف هل هي مُشكلة ميسي؟
أم أن الجحيم الذي يفرضونه هو ما تسبب في تلك الأزمة، لقد تغاضوا طوال الوقت عن كُل شيء؛ لأن مارادونا حقق كأس العالم، منذ مونديال 90، لم تصل الأرجنتين إلى نهائي كأس العالم سوى في حقبة ميسي. مُدرب كولومبيا تنبأ في تصفيات 2002، أن تفتك الأرجنتين بالمُتربصين لها، في كوريا واليابان، لكن الأرجنتين كانت دائماً هي الأرجنتين، فودعت المسابقة من دور المجموعات، وفقدت العديد والعديد من المنطق.
على ميسي أن يذهب إلى الجحيم، إذا أراد أن يشعر بقيمته؛ لأنه لن يرفع أصابعه في وجه الكاميرا، ولن يتعاطى المُخدرات، مهما فَعل لن يُغير من حقيقة أن دييجو مهما فعل، سيبقي دييجو، الذي اعترف بنفسه، أن معه، كُلما سقطت الأرجنتين، كان خلفه بوروتشاجا وفالدانو، على عكس ليونيل ميسي، الذي لا يمتلك أن يُغير من حقيقة الأمر شيئاً.
"ميسي! ميسي لا يستحق هذا يا أرجنتين، لا يستحق هذا أبداً يا أرجنتين…".
– عنوان صحيفة الموندو عقب هزيمة الأرجنتين من كرواتيا في كأس العالم 2018.
الفيلم الذي تم منع عرضه
"نحن مدينون لأنفسنا بكأس العالم بعد كل ما حدث، ماذا عن الشعب الأرجنتيني؟ نحن لا ندين لهم بأي شيء".
هكذا تحدث ميسي أخيراً في عام 2017، لا شيء على الإطلاق يدين به ميسي لهؤلاء.
مشهد 1
في جنوب إفريقيا، سنة 2010 في كأس العالم، كان ميسي محاطاً بالإعلام والصحافة التي تنتظره بفارغ الصبر، بعد الإقصاء التاريخي أمام ألمانيا من ربع النهائي برباعية نظيفة.
وميسي حينها خرج في عباءة مارادونا، اللاعب الأسطوري والمدرب الفاشل يحاول بقدر الإمكان أن يحمي أفضل لاعب في العالم من سهام الصحافة.
مشهد 2
هذه المرة لا أحد يسامحه، يخرج ميسي واضعاً رأسه في أسفل مستويات النظر التي يمكن أن يصل إليها، ويسمع الشتائم والسخرية من مواطني بلده، بعد أن ودعت الأرجنتين كوبا أمريكا في أرضها أمام الأوروجواي في عام 2011.
مشهد 3
يصعد ميسي إلى منصة التتويج، عليها كأس العالم، يمر بجوارها ميسي، ويتحاشاها كلياً، ويُصافح الموجودين ثم يعود إلى أرض الملعب شارداً، حدث ذلك في أرض البرازيل عام 2014.
مشهد 4
يرفض ميسي أن يحصل على جائزة أفضل لاعب في بطولة كوبا أمريكا في تشيلي عام 2015، ويضطر مسؤولو شركة master card إلى إلغائها رسمياً؛ لتصبح أول مرة في تاريخ البطولة لا يُعلن فيها عن جائزة أفضل لاعب.
مشهد 5
الكاميرا تدور، تبحث عن ميسي، على الأرض كان، ساقطاً يبكي، هذه المرة انتهى كل شيء فعلاً، لقد حاول كثيراً، لكن دون جدوى، لذا لابد من التغيير، والقرار قد اتُخذ بالفعل.
"ميسي يُعلن رسمياً اعتزاله اللعب دولياً"
مشهد محذوف لكنه ضروري
في عام 2012، سافر الصحفي رايت تومبسن لروزاريو، لرؤية المدينة التي نشأ بها ميسي، وكان متوقعاً أن يرى الكثير، لكنه عاد مصدوماً.
لا يوجد احتفاء بميسي هناك، لا رسومات في الشوارع، وتزامنت الزيارة مع خسارة الأرجنتين لكوبا أمريكا 2011 على أرضها، وقبلها كان الخروج من كأس العالم برباعية.
حينما سأل الناس عن ميسي، كانت الإجابات صادمة، منهم من قال إنه لاعب عظيم لكن لبرشلونة فحسب، ومنهم من قال إنه ليس أرجنتينيّاً في الأساس، هو إسباني برشلوني.
جزء كبير مما فعله ميسي، لم يكن أبداً سعياً لمجد شخصي بقدر ما هو إثبات ولاء، وإرضاء الشعب.
الهداف التاريخي للمنتخب، أكثر من صنع، الأكثر في كل شيء، لكن مشكوك في أمره، خصوصاً لدولة كان بطلها مارادونا، إقناع شعبها غاية لا تُدرك.
بعد هذا كله، كتب رايت بعد زيارته سنة 2012: "يمكن لميسي أن يجني الأموال، يصبح الأفضل، لديه صداقات، الكثير من الجوائز، محظوظ في كل نواحي الحياة، لكنه لا يمتلك وطناً بعد".
أنت تستحق نهاية سعيدة لفيلمك الرائع
كان ميسي يبحث عن وطن وأصدقاء، ومنتخب، لأعوام طوال لم يجد أياً من هؤلاء أبداً.
على دكة المنتخب، كان إيميليانو مارتينيز، الذي خرج من أرسنال قاصداً فرصة في أستون فيلا، والذي قال منذ مدة طويلة إنه على استعداد لفعل أي شيء ليرى ميسي سعيداً، ويريد أن يحقق ميسي كأس العالم والكوبا.
في قوام المنتخب، كان رودريجو دي باول، الرجل الذي ظهر كالأبطال الذين يظهرون في الأفلام، لا تعرف كيف ولا متى، لكنك لا ترغب في رحيلهم بعد أن ظهروا.
رودريجو يقول إن عليك أن تفعل أي شيء من أجل ميسي، حتى وإن استدعى الأمر منك أن تذهب إلى الحرب معه.
لويس زوبيلديا، مدربه السابق، كان يصفه بأنه "صديق الكل" يسعى لإراحة زملائه بكل طاقته، يبذل من أجلهم كل مجهوده.
لعب مع سكالوني في كل الأماكن، على الطرف، في العمق، على اليمين، اليسار، حتى نهائي الماراكانا، قدم حينها مباراة العمر، مباراة تتابعها بالشغف نفسه في كل مرة.
"صديق الكل، والبطل داخل الفريق البطل، دخل تشكيلة الأرجنتين لكي لا يخرج منها أبداً، وأصبح مؤلفاً لقصة نهائي الماراكانا".
منذ 5 سنوات، غرد ليونيل سكالوني، مدرب المنتخب الأرجنتيني، عبر حسابه على تويتر، بعد نهائي كوبا 2016، عن حزنه لاعتزال ميسي: "هذه الصورة تصف كل شيء.. لا ترحل ليو!".
بعد 5 سنوات، سكالوني كان يحتضن ميسي محتفلاً معه بأول لقب لمنتخب الأرجنتين بعد 28 سنة، وهو المدرب.
لماذا يجب أن تفوز الأرجنتين بلقب كأس العالم في قطر؟
أنا سعيد للنهاية التي تنتهي بها قصة ميسي مع الأرجنتين، كان من الصعب أن تنتهي نهاية سخيفة بعد كل ما حدث، الآن يلعب كأنه في الحارة، كأن لا أحد يراقبه، كأنه يمرح، ثقل آمال وأحلام الناس قد انزاحت عن عاتقه للأبد.
الآن يفكر المنتخب في قطر، سجلهم العظيم دون هزيمة مؤشر حقيقي على ذلك، حبهم لقائدهم مؤشر آخر، الطريقة التي يلعبون بها لم نرها إطلاقاً في المنتخب منذ سنوات.
إنهم يحبون قائدهم حقاً، ويبذلون من أجله ما استطاعوا لكي يوفروا عليه مشقة الطريق الذي لطالما سار فيه بمفرده، دي باول، إيميليانو، روميرو، وغيرهم ممن تحدثوا عن مدى حبهم لميسي ورغبتهم في مساعدته لتحقيق الألقاب. وهو ما تحقق، رأينا ذلك في كوبا أمريكا وفي كأس الفايناليسما أمام إيطاليا.
إما الآن أو لا للأبد
فور أن أطلق الحكم صافرة النهاية في نهائي كوبا أمريكا 2021، سقط ميسي أرضاً، هذه المرة الأولى التي يسقط فيها باكياً فرحاً، إنها المرة الأولى التي يُجرب فيها لذة الانتصار بعد مرارات الهزائم.
من حوله كان المنتخب، الذي ركض نحوه، كأن ميسي هو الكأس أو كأنهم أوفوا بوعودهم من أجله.
في لحظات التتويج يحملونه ويحتفلون به، يحبونه، يحبونه حقاً، هذا ما قاله والد إيمليانو مارتينيز، إن ابنه كان سعيداً بتحقيق الكوبا بقدر سعادته نفسه من أجل ميسي.
دي باول قال إن لاعبي المنتخب كانوا سعداء للغاية من أجل ميسي، وأغلبهم اتفق على المحاولة حتى الرمق الأخير من أجل منحه اللقب.
يبدو ذلك جلياً في غمار جلبه للكأس للاحتفال معهم، إنهم ينظرون إليه كأنهم يرونه للمرة الأولى، ويرقصون فرحاً به ومعه ومن أجله، كأن المنتخب الأرجنتيني بالنسبة لأغلبهم هو ميسي.
وفي 18 ديسمبر هذا العام، يمكن لميسي أن يصعد منصة التتويج الثالثة مع المنتخب الأرجنتيني، لقد شاءت الحياة أن يمر ميسي بجانب الكأس الذهبية في البرازيل، وصالحته في الأرض نفسها بلقب الكوبا، وشاءت أن يبكي في أمريكا الجنوبية كثيراً، حتى شحبت ملامحه واكتئب، ويمكن لها أن تصالحه في قطر، في 18 ديسمبر، قد يكتب ميسي تاريخاً خالداً لقصة غريبة، لا تعرف كيف بدأت ولا متى انتهت.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.