بُني الحبيب، هلّا سمحت لي بأن أجمعك معي أثناء سردي للمقالة هذه كما جرت العادة؟ أنا أعلم جيداً أنك الآن صرتَ شاباً، لك شخصيتك، وتملك رأيك الخاص، ولا تقبل من أحد أن يمسّ حريتك كائناً من كان، فتلك المواد التي سبقت ومنذ بداياتها لم تكن سوى تأملات بيني وبين نفسي لا أكثر، لكن سأفشي لك سرَّين الآن، فلربما حان وقتهما، مفاد الأول أنني أشعر بشكل جيد كما لو كنت تَخِزُ جزءاً مُخَدَّراً من جلدك، بعد أن بَدأَت تتدفق الدماء إليه من جديد، هكذا أشعر تماماً وأنا أكتب تأملاتي هذه، وكأنك الآن في المستقبل البعيد تقرأها وتستلهم وجودي من خلالها.
والثاني هو أنني لم أتصور أن الله سيعوضني ويمنحني أن أعيش من جديد تلك الأيام التي عشتها بقربك، وخاصة تلك الأيام التي ابتعدتُ عنك فيها أثناء طفولتك، إلا أنني لم أعهد صباك الأول، اليوم كما تعلم رزقني الله بأخٍ لك، ها قد عدتُ أقبّل رأسه بقوة، وأستنشق رائحته، وأجلس بقربه وهو يلعب ويتعرّف على الأشياء من حوله، ينام على صدري كما كنت تنام في صغرك، إنه يملأ الدنيا عليّ فرحاً وبهجة وهدوءاً وسكينة.. يا الله ما أكرمك وما أعظمك.
كنا في كل مرة بُني الحبيب نناقش بعضَ الأحداث المهمة، أو الملمات بالأحرى، والتي تكون قد ألمت بالعالم مِن حولنا، أما الآن فلَربما نحتاج لمجلدات وأطنان من القهوة كي نناقش بعضاً منها للأسف الشديد، والتي ألمّت بمنطقتنا العربية فقط، ناهيك عن باقي الكوكب خلال فترة الغياب الطاغية هذه، يا إلهي، كيف أبدأ؟ لا أعلم، وهي أحداث أُحب كثيراً أن نناقشها فيما بيننا؛ لأنني ببساطة لا أعلم شيئاً عن حياتك الخاصة مهما كان ضئيلاً، فتجدني ألجأ دائماً لتلك النقاشات العقيمة والتي تعودنا نحن معشر الأعراب على اللجوء إليها منذ عشرات السنين، لكن دون جدوى تُذكر، لا على الصعيد الحياتي المُعاش، ولا على أي صعيد آخر يمكن أن تتخيله.
على كل حال، أكثر ما يخطر ببالي الآن هو شيء أطلقتُ عليه مرض "الافتضاحية التطبيعية" مع العدو، فأنت تعلم أن هناك مرضاً يعاني منه بعض البشر يُسمى الافتضاحية، وهو مرض حقيقي، بحيث يميل الشخص لفضح أسراره، وخاصة المشينة منها، والتي لا ينبغي له أن يتحدث بها حتى أمام أقرب المقربين، فيحدث أن يستمتع أثناء فضحه لنفسه أمام الآخرين، ويشعر بالنشوة، وهذا ما تمر به جل أنظمتنا العربية اليوم في فضح علاقاتها مع كيان الاحتلال.
أريد أن أناقش معك حبيبَ عمري أمراً، وهو: هل تعاني تلك الأنظمة فعلاً من الافتضاحية، بحيث تشعر بالنشوة من فضح أفعالها المشينة أمام شعوبها، أم أن العدو أجبرها إجباراً على فضح نفسها وفضح ما كان يدور على مر عقود تحت الطاولة؟ هل شاهدتَ يوماً أحد تلك الأفلام العربية الهابطة، حين كانت تجلس البطلة بقرب البطل على مائدة الغداء أو العشاء، فيقوم البطل بوضع يده على فخذ البطلة على غفلة من باقي الجلوس؟ من المؤكد أن أحد تلك المشاهد القذرة اقتحم وجدانك المهذب وأنت تجلس أمام تلك الشاشة رغماً عنك، هذا ما كان يحدث بين تلك الأنظمة والعدو، حين كان يمسّ فخذيها من تحت الطاولة مرةً وراءَ مرةٍ وراء مرة.
لكن العجيب والغريب بُني الحبيب هو أن أنظمتنا رفعت شرشف الطاولة لتكشف للجميع ذاك الأمر المشين، الذي كان يفعله بها العدو ليصبح على الملأ، وهنا لم تكن تلك الأنظمة تفعل ذلك كي تفضح العدو القذر من أجل ردعه، لا، تصوّر هي تريد بذلك فضح المستور؛ كي يدنس سمعتها على الملأ، وتتخلص أخيراً من جهد التستر، إنه أمر لا يمكن تفسيره أو تخيله.
تخيل أن يأتي هذا العدو ويجعل أياماً ومناسبات سنوية لأفعاله بحقنا، ثم تأتي كل تلك الأنظمة التي شوّه سمعتها وأفقدها الغالي والنفيس من إخوانها، لتشاركه احتفالاته بذكرى احتلالاته معها، وتبادله المشاعر بأعذب التهاني والتبريكات والأمنيات، هذا التصور أكثر ما يطغى على فكري الآن، حيث لم تعد تهمني أزمة المناخ، ولا الحرب الروسية على أوكرانيا، ولا تأثيرها المرعب على أسعار الغذاء إلى جانب تأثير المناخ بذلك، ولا تدميرها لنوعية الحياة، وخاصة في منطقتنا العربية، وجعلها من أبشع نوعيات الحيوات على مر التاريخ، وكيف أنها فضحت وعرّت تلك الأنظمة، وأسقطت آخر ورقة توت عن عورتها، تلك الأنظمة التي لم تكن تعمل يوماً لمصلحة الشعوب والأوطان، بل عملت على تجويعها وتعريتها وتشريدها وإفقارها لصالح ذاك العدو العابث.
هذه رسالتي إليك وهذا درسي في التطبيع يا صغيري.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.