متى بدأ كل شيء؟
من مجتمع من الصعب النجاح فيه، وبعد عدة انتقالات فاشلة في أوروبا، استطاع محمد صلاح أن يكسر الفشل المصري في الجولات الأوروبية، وكان المصري الوحيد الذي ثبَّت قدميه في رحلة أوروبا التي تُعد قصيرة للغاية بالنسبة للبعض.
من المقاولون إلى بازل، والناس خلفه ولو عن طريق المقاهي، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي للأندية الإنجليزية والإيطالية، يمزحون أحياناً، ويتحدثون بلهجة مدافعة في أوقات كثيرة.
صلاح يصل الملعب حاملاً المصحف ويقرأ فيه أثناء رحلاته من وإلى أي مكان، والناس يرون فيه المواطن الذي يريدونه لو كانوا مكانه، ولو ذهب أحدهم بدلاً منه.
من هنا أصبح محمد صلاح ليس مجرد لاعب يمكنه أن يُقرر ماذا يريد، لقد أصبح شيئاً يُمثل الناس من وجهة نظرهم، حتى وإن لم يفعل ذلك فعلاً ولم يسعَ إليه، وكذلك من دون أن يطلبوا منه ذلك.
صلاح في تل أبيب
طوال هذه الفترة، كان صلاح هو المواطن الذي يفعل ما يفعله أي مواطن مصري، وفي زيارته لمكابي تل أبيب في دوري أبطال أوروبا، رفض محمد صلاح أن يُصافح لاعبي الفريق الصهيوني؛ بحجة ربط الحذاء التي بدت منطقية حتى وإن لم تنطلِ على أي واحد منا فعلاً.
ثم سجل هدفاً، ثم خرج محمولاً على هتافاتهم وصيحاتهم العنصرية ضده، وهو يُشير لهم بيده بطريقة استفزازية.
زادت أسهم محمد صلاح حينها، ليس فقط عند المصريين، بل عند العرب كلهم، إذا أردنا الدقة، كونه من اللاعبين القلائل الذين تمكنوا من تحقيق إحدى البطولات الشرفية التي يحلم بها أي واحد منا، وأن يُسجل في مرمى هؤلاء، وأن يستفزهم، ثم يضع صورة الأقصى على حسابه.. يا سلام!
المواطن صلاح يتحول إلى نجم عالمي
لقد تغيَّر صلاح كثيراً، واختلف عما كان عليه من قبل، لقد أصبح لاعباً في ليفربول، ومن البداية يتألق ويسجل أهدافاً، يتغنى المعلقون باسمه، تهتف الجماهير له، تردد أغاني صمموها خصيصاً له.
محمد صلاح يُسجل هدفاً في مرمى الكونغو، ويكسر به الحاجز العصيّ على مصر في كأس العالم، ويُحمل على الأعناق، ويتحول من مجرد محترف كنا نتمنى نجاحه، إلى نجم يصعب تصديق أنه مصري، وأنه واحد منا، وأنه خرج من نفس البيئة التي عِشنا فيها، والظروف التي تعايشنا معها، والمجتمع الذي نُقابله كل يوم.
المصريون خلفك في كل مكان.. وهذا يُضايق الأجانب!
في كأس العالم في أرض البرازيل، بالقرب من سواحل الكوباكبانا، على مقربة من الماراكانا، من بعيد يظهر تمثال المسيح الفادي على قمة جبل كوركوفادو، كان النجم الأرجنتينى ليونيل ميسي يحمل درع الرجل الأفضل لالتقاط صورته التذكارية الرابعة، البرغوث تم إجراء الاستفتاء على أفضليته عبر رابط رسمي من موقع الفيفا، أمام البوسنة والهرسك، أمام إيران، أمام نيجيريا، أمام سويسرا.
ما كان من كارهي فتى روزاريو إلا ادعاء أنه ليس الأفضل دائماً، التصويت الذي تُجريه الفيفا مع الأخذ في الاعتبار ضرورة سماع رأى الجماهير بمختلف أجناسها، يتنافى دوماً أو قليلاً مع الواقع، هنا كان مؤيدو ليونيل يقفون بالمرصاد ويؤكدون أحقيته، يزرعون في ألسنة الجميع سم الصمت الدائم.
تتغير الأحوال وتضع مجلة فرانس فوتبول رابطاً، فيه يتم التصويت على أفضل لاعب من قائمة تضم ثلاثين رجلاً، ضمنهم الجزائرى رياض محرز، رياض اكتسح التصويت، ليس فقط من أهل الجزائر، لكن بدافع العروبة، عرب كُثر صوَّتوا على أفضلية محرز من وجهة نظرهم، بعد أن تم التأكد أن التصويت قد لا يُمثل 2.5% من نسبة الأفضلية المطلقة، حينها تم التقليل من شأن محرز وقيل إنه لا يستحق ذلك حتى وإن كان الانتصار يُدعى انتصاراً معنوياً للاعب ولتحقيق لاعب عربي هذا الحدث.
تمر الأيام، محمد صلاح يتم اختياره أفضل لاعب في الجولة الأولى من دوري أبطال أوروبا، يستشيط البعض من الحدث، بغض النظر عن أحقية صلاح أو محرز في هذا الأمر، لكن لماذا نُبيح ذلك لغيرهم؟
لماذا نسرق الأفراح على الفور وطيّها في سجلات الانتقاد فحسب؟ لماذا يُصادف ربيع انتصار شخص عربي نفس الخريف الذي تتساقط به أوراق الزمان عن مواضعها؟
الحديث هنا لا يرتكز عند نقطة هل يستحق أم لا، الحديث هنا يصف تغير آراء البعض، الفكرة ثابتة، التصويت يتم عن طريق وضع رابط للجماهير، من خلاله يتم التصويت كنايةً عن حب صاحبك، لا عن طريق الأفضلية، نضع الروابط لكى ننتصر في المسابقات وإن كان محتوى ما نقدمه ضعيفاً للغاية؛ نظراً لشعبيتنا، في المقابل هناك من يُظلم ومحتواه أفضل بكثير وكثير مما نحن عليه، لكن شعبيته أقل على سبيل المثال، حينها نحن لا نذكر أن هناك مَن هو أحق منا.
أنا إن وضعت رابطاً لاختياري أفضل مهرِّج في القرن الحديث مع آخرين سيتم اختياري إن طلبت من البعض التصويت لي، العكس تماماً بما يشعر به الناس؛ لأنهم لم ولن يروا في شخصي المهرِّج الأفضل، لكنهم سيصوِّتون؛ لأنهم يُحبون انتصاري في أي وقت ومكان.
وهنا، وعلى غرار كل اللاعبين العالميين، لم يحدث من قبل أن يحتل أحد صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي لنادٍ في العالم، مثلما فعل العرب مع لاعبيهم، وعلى رأسهم المصريون مع محمد صلاح في كل نادٍ ذهب إليه!
لقد أصبحت التعليقات التي يكتبها الناس على صفحات الأندية مؤشراً قوياً على دعم وحضور الجمهور المصري خلف صلاح في أي مكان، حتى التصويتات التي تعتمد بالأساس على أصوات الجماهير في الاستفتاءات التي يجريها الاتحاد الأوروبي؛ كان يفوز بها صلاح، وبفارق كبير وضخم، وحتى وإن لم يفعل أي شيء خلال هذه الجولة، وحتى وإن لم يكن الأفضل.
ربما من هنا
في إحدى الحملات الدعائية، جلس صلاح ليرد على أسئلة الصحفيين، قال إنه لا يهتم بما يُقال في ذَمِّه، وإن الشعب المصري لا يتمتع بالعقلية "المينتاليتي".
الغريب أن الأمر مر مرور الكرام حينها، وبعد شهور، أعاد الناس نشر الفيديو معلقين على ما قاله، وكأنهم لاحظوه بعد مدة، رغم الخطأ الذي ارتكبه في حق نفسه، وحتى وإن كان ما قاله صحيحاً، لكن انتقاد سلوك شعب من نجمه الأول أمر مرفوض تماماً، فما بالك إن كان على مرأى ومسمع العالم كله؟!
أو من هنا أظن
المنتخب المصري يدخل استاد القاهرة، أمام جمهوره، في بطولة كأس الأمم 2019، بعد فوضى عارمة، داخلياً وخارجياً، في صفوفه. الجماهير بدورها لم تسكت على ما رأت، وراحت تنتقد سلوكيات اللاعبين الذين لا يدركون أنهم يخوضون البطولة القارية على أرضهم وبين جمهورهم الذي يدعمهم قلباً وقالباً.
وكان عمرو وردة يمارس ما يمارسه، ليس لمرة، بل لمرتين، في المقابل أصدر الاتحاد المصري لكرة القدم بياناً باستبعاده ومعاقبته.
هنا تدخل قادة المنتخب، وعلى رأسهم محمد صلاح، وتحول العقاب إلى دعم، والدعم إلى فرص ثانية، والفرص الثانية إلى مسامحة وغفران، وحينما تكرر الأمر من وردة، تبرأ منه محمد صلاح، وقال في مقابلته مع الـCNN إن عمرو وردة بحاجة إلى العلاج، وإنه يحترم حقوق المرأة بشدة.
بالتأكيد هنا، لا يمكن إلا أن تكون هنا!
حينما تحدث مسعود أوزيل؛ خسر، ما حدث لمسلمي الإيغور فاق كل الحدود، وتحدث أوزيل عنه، دون توصية من أحد، بمفرده تحدث، أمسك هاتفه وتحدث، ولم يحسب لما قال حساباً. وخسر أوزيل، خسر مادياً ومعنوياً وحتى رقمياً، ودخل في دوامات عدة، لكلمة قالها، وحالة وضعها على حسابه في إنستغرام.
وتحدث معظم لاعبي العالم المسلمين، إلا محمد صلاح، الذي فضَّل أن يرتكن إلى الصمت، وأن يشاهد دون أن يُبدي رأياً، لا معارضاً ولا مؤيداً، "بين البينين".
القاضية ممكن؟
على نفس الأرض التي دخلها صلاح في بداياته لاعباً موهوباً، كانت إسرائيل توزعها إلى أجزاء، وكل جزء تُقسمه كأنه كعك، من بين هذه الأجزاء كان حي الشيخ جراح، الذي قُسم إلى مواطن صغيرة، ليست فلسطينية، بل أخرجوا أهلها ووضعوا مكانهم مستوطنين يهوداً، وهنا كان على العالم أن يعرف.
وبدأ العالم بأكمله يعرف فعلاً، عن طريق نجوم كرة القدم، الذين رفعوا الأعلام والشارات من كل حدب وصوب، على حساباتهم وفي أرض الملعب، ومحمد صلاح ما زال يرتكن إلى الصمت، لا هو مؤيد، ولا هو معارض.
واستجاب أخيراً، بالضغط أو بالتخطيط، لكنه في النهاية تحدث، حتى وإن كان حديثه عبارة عن بيان فسره البعض كبيانٍ سياسي يُلقيه أحد الساسة.
هل من المفترض أن يتحدث النجوم عن القضايا السياسية؟
لا، ونعم… لا؛ لأن أغلبهم يتمتع بشعبية كبيرة، ويمتلك عقوداً ضخمة، وتطرقه لأي جانب سياسي يعني بالمثل أنه سيخسر شيئاً نظير ما يقوله ويتفوه به.
مايكل جوردان لم يكن يتحدث عن آرائه السياسية، احتراماً للجمهوريين الذي يشترون أحذيته، خشية أن يفقد زبائن دائمين وتعدادهم لا يمكن تعويضه.
ميسي لم يتحدث أبداً في أي قضية للمدينة التي تربى بها، برشلونة، والإقليم الذي احتضنه، كتالونيا، وفي 2017، في الأحداث التي نشبت في طرقات وشوارع المدينة بين المواطنين والشرطة، كانت الغالبية العظمى هناك يتمنون لو تحدث ميسي، كونه أحد أكبر الأسماء المتواجدة في عالم كرة القدم، والكلمة التي تخرج منه وزنها ذهب.
لكن أحدهم قال: "ميسي يعرف كيف يلعب كرة القدم، كيف يشرب، كيف يأكل، كيف ينام، لكنه لا يعرف أي شيء عن السياسة، ولن يفعل أبداً".
ما الحقيقة إذن؟
في مصر كما في العالم، الناس يحبون لدرجة التقديس، ويكرهون لدرجة الحقد، ومحمد صلاح تغيَّر، ما حدث له جعله مجبراً لا مُخيراً على التغير، تغيير عقليته وأسلوبه، تماماً مثلما تغير كل شيء فيه كلاعب كرة قدم.
أدرك محمد صلاح أن كل شيء يدفعه إلى أن يكون نجماً عالمياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وبدأ الناس يجدون مبرراً لكراهيته بشتى الطرق، مثل أنه يحاول التنصل من دينه لإرضاء الغرب والحصول على الكرة الذهبية، في وقت ترشح فيه صلاح لجائزة الأفضل The Best في بدايته مع ليفربول وموسمه الأول، وفي وقت كان يحمل فيه المصحف ويقرأ القرآن ويصلي ويصوم، أي إن الأمر لا رابط بينه وبين التغير.
في مصر، عام 2018، لعب محمد صلاح أول نهائي أوروبي يراه المصريون للاعب مصري وأمام من؟ أمام ريال مدريد.
وسقط صلاح، ونهض باكياً، ومن هنا وجدنا الكثير من المصريين يسخرون منه، بل ويستخدمون إصابته ضده، ويفرحون بها ويُخلدونها أيضاً.
وفي 2022، عاد صلاح وعادت معه الذكريات، هذه المرة بجعبة مليئة بالتصريحات قبل النهائي، أمام من؟ أمام ريال مدريد، عن نيته في الانتقام، وعن رغبته في الثأر، وعن شغفه للمباراة، التي انتهت بـ6 تسديدات لمحمد صلاح على مرمى تيبو كورتوا حارس ريال مدريد، تصدى لها كورتوا كاملة، ومنع صلاح من تحويل حديثه إلى واقع نشاهده ونترجمه ونفهمه.
وخسر صلاح مجدداً، ولم يخرج مصاباً، هذه المرة كان قادراً على السير بجوار ذات الأذنين، وأثناء سيره، سمع العالمُ كله مواطني بلده يسخرون منه، ويشتمونه، ليست المرة الأولى، إنها الثانية، ومن الواضح أنها لن تكون الأخيرة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.