كان الأمس يوماً مظلماً لا يليق به مع الاتشاح بالسواد سوى الصمت، يومٌ قاسٍ وموحش يُظهر الوجه القبيح لهذا العالم الذي ما نفتأ نطرف أعيننا عنه حتى يفجعنا بحادث مرير يبرز لنا به أنيابه القبيحة. وكل حادث يظهر قبحاً أعتى وأشد.
22 عاماً مرت على الصباح الذي فتح باب الحزن الأول على قلبي ومعه قلوب كل بني جيلي، حتى يتكرر صباح دموي مشابه في الغدر ومتفوق في النذالة والوضاعة؛ فمنذ 22 عاماً اهتزت قلوبنا لصورة "محمد الدرة" متلحفاً بأبيه من ضربات الاحتلال الصهيوني الغاشمة ثم جثة هامدة إلى جواره لا يتحرك لها ساكن، واليوم انخلعت أرواحنا لمشهد سقوط "شيرين أبو عاقلة" بنفس الحال.
كأن فاصلاً زمنياً لم يوجد بين الحدثين، كأن أياماً لم تمر، وكأن الجثث الهامدة هي في الحقيقة نحن لا أولئك الأشراف أصحاب الأرض والقضية الذين تصيبهم رصاصات الاحتلال وهم صامدون عازمون على استكمال صمودهم ومقاومتهم بداية من "الدرة" وانتهاءً بـ"أبو عاقلة".
أكد لي ذلك أنني لأول وهلة لم أكن أعلم أن "شيرين أبو عاقلة" مسيحية ولم أجد في نفسي داعياً للتحقق من ديانتها، ولكن فجأة انهالت أمامي المنشورات من المشاهير والعامة تُذكِّر بمنع الترحم على الكافر، والذي هو في واقع الأمر مسألة تحتمل الاختلاف الفقهي، وحتى ترجيح منعه هو أمر تباينت فيه أنظار المجتهدين.
والحقيقة أن تلك المنشورات لم تذكرني إلا بقول المتنبي: "أغاية الدين أن تُحْفُوا شواربكم.. يا أمة ضحكتْ من جهلها الأممُ".
يا سادة! أليس منكم رجل رشيد؟! لو أن انتفاضتكم هذه للحول دون الترحم على "شيرين أبو عاقلة" كانت انتفاضة لفضح قاتلها الخسيس، ولو أنكم جمعتم الأدلة والبراهين بالعزم ذاته الذي جمعتموها به لحجب طلب الرحمة عنها ولكن لرفع الستار عن الإنسانية الزائفة لهذا العالم القبيح الذي يتشدق ليلاً ونهاراً بحقوق الإنسان وتحرير المرأة؛ لكان أقوم قيلاً.
يا سادة! هذا ليس وقت المناظرات الفقهية لمسألة جواز الترحم على الكافر أو منعه، وإنما وقت التكاتف والتلاحم للتوعية بالقضية برمتها ورفض الظلم وفضح الصهاينة وجرائمهم.
الصهاينة الذين عادوا بخِسَّتهم كأن لم يكفِهم أن شوهوا سعادة طفولتنا بما بثوه إلى قلوبنا الصغيرة حينها من حزن وألم لحادثة "الدرة"، بل أضاعوا بالأمس علينا شبابنا حين صوبوا سلاحهم الذي لم يعرف للحق طريقاً قط تجاه رأس يخشون فكرها وصمودها وبسالة حاملتها؛ فسرقوا برصاصاتهم العمياء صوتاً محفوراً في ذاكرتي وذاكرة كل شباب اليوم منذ طفولتنا.
منذ الأيام التي تابعنا فيها قنوات الأخبار في تململ الصغار بجوار والدينا إلى الأيام التي اخترنا فيها قناة الجزيرة بأيدينا بعد أن توارثنا القضية فسلكت في عروقنا مسلك الدم فيها؛ لنسمع على لسانها مستجدات قضيتنا تسردها بهدوء وثبات كأنما تتحدث من ساحة منزلها الآمنة لا من جنين ويافا وغزة والضفة والخليل وبيت لحم ورام الله والقدس بما فيهم من قصف لا ينقطع.
سرقوا فرداً من عوائلنا، أو زائرة محبوبة نطلبها بأنفسنا كل مساء ولا نملّ حديثها إلى أن تختمه بالهدوء والثبات ذاته الذي سردت به علينا كل ما يزيد شعورنا بالعجز والهم والنكبة قائلة "شيرين أبو عاقلة – القدس المحتلة".
سنفتقد صوت "شيرين" الذي كبرنا معه لا شك، حتى أنني أظن أطباق سفرة عشائنا ستفتقد صوتها كما سنفعل وربما أكثر، ولكن عزاءنا أنها ستحيا أطول بكثير ممن قتلها، وسيحمل الراية من خلفها أبطال جدد منا ومن أبنائنا ليستكملوا المسير ويفضحوا جرائم الاحتلال الإسرائيلي ويدافعوا عن قدسنا الشريف بكل ما أوتوا. أبطال لا يعرفون للخوف تفسيراً حتى إن رأوا بأم أعينهم استهداف القناصة لهم لا يحيدون يُمنة أو يُسرة فلا يظهر من ذوي الأرض لقناصيهم المغتصبين شيءٌ من فزع ولو كانت خطوة واحدة تحميهم من رصاصاتهم.
عزاؤنا أنه سيظل هناك شوكة قاسية حادة غير قابلة للبلع في حلق الصهاينة للأبد، وشرف لنا أن نكون وذرياتنا جزءاً منها رغم أنف كل المتواطئين والمُطَبِّعين والمطأطئين.
رحم الله ضيفة العشاء الخفيفة المخلصة لمضيفيها "شيرين أبو عاقلة" التي طابقتها أبيات أمل دنقل اليوم كأنما صاغها لها دون أن يعرفها حين قال:
"مُعلق أنا على مشانق الصباح
وجبهتي بالموت محنيّة
لأنني لم أحنِها.. حية!"
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.