منذ معرفتي بفلسطين في نعومة أظفاري ارتبطت معي بعدة صور، كانت من أولها هذه القادمة من هناك عبر البث الحي، وفي التقارير، يجلس أبي أمام التلفاز يتابع التطورات الساخنة، بينما يثبت في ذهني الصغير بين كل هذا الزحام أسماء وصور محدودة، كانت تلك الصور هي الأقصى، وفلسطين، وقطاع غزة، والضفة الغربية، وشيرين أبو عاقلة – القدس.
كان الاسم وما زال إلى أن كبرت عالقاً، حتى هذه اللحظة التي أصبحت فيها على الخبر، كانت شيرين أبو عاقلة مدينة من المدن التي هناك، اسمها بجوار اسم مدينة القدس ليس على سبيل المبالغة وإنما هو كما هو بلا مجازات، حقيقة عندي، علامة بادية على الجبين لا تخطئها الشمس، كلما سمعت صوتها قادماً من بعيد تحسست عيني وتفقدت مواضع نظري لأجعلها كلها نحو القدس؛ الحكمة تقول إنه إذا ظهرت شيرين فلا بد أن الأمر جلل.
ليست القضية الفلسطينية وحدها التي ارتبطت معي بشيرين، بصوتها ونبرة الخطر الذي في طبقاته، وإنما حلم الصحافة الذي تكون عندي على يدها، أو إن شئتَ قُل: على صوتها. عرفتُ معنى الصحفيّ ومعاني الصحافة، وكيف يكون الإنسان مقاتلاً بصوته، كيف يدق ناقوس الانتباه بالتنقل بين الأحبال الصوتية، كيف يكشف الصورة بإزاحة جسمه عن الكاميرا ليظهر ما يختبئ خلفه، كيف يختفي ليظهر ما هو أعظم منه، حتى تلك التقارير التي كانت تعدها شيرين وقد لا تظهر فيها، كنتُ أشعر أنها ناقصة؛ لأن عنصراً أساسياً كان وجهها، إيماءاتها، تأكيدها ولو بالعيون وحدها أن هذه الأرض لنا، أن الحدث الذي ننقله لا ينفصل عن ذواتنا، أن السترة الواقية من الرصاص تقول إن رصاصاً هنا قد يصيبنا في أي وقت؛ لأننا محتلون يا عالم.
ربما كانت وحدها شيرين أبو عاقلة، من وسط أحبابها، كانت تعلم أنها ستكون ذات يومٍ خبراً، هي نفسها الخبر، هي نفسها الحدث، لكنها لم تكن تقول، تودع كل يومٍ عائلتها الدافئة، تقبّل جبهات الصغار، وتعدهم بالعودة، وتؤمن بأن الخوذة لا تقي من الرصاص، والسترة لا تحمي من الطلقات، والصحافة لا تعصم من الموت قتلاً؛ لأنها لا تغطي أحداثاً ساخنة في عالم ديزني، وإنما في فلسطين التي تعرفها جيداً، تحفظ جغرافيتها وتاريخها ويومها، وتتنبأ بغدها كأنه مكشوفٌ عنها الحجاب. ربما لم تفاجأ لحظة موتها بالرصاصة، وإنما استقبلتها استقبال الصباح، واستقبال الشمس، واستقبال القمر، حقيقة تحدث، وحان وقتها.
كل المراثي والمباكي لا تنفع في يومنا هذا، كل هذه الكربلائيات لوداع الشهداء لم تعد تجدي، فما بعد "سيف القدس" ليس كما قبلها، وارتقاء شيرين لحظة جليلة، لا تستحق التوقف عندها بقدر ما تستحق الحركة، الثورة، الانتفاضة، وليست لأنها أعز من غيرها، بل هي واحدة مثل الذين يرحلون كل يوم فداء هذا الوطن، لكنها أيقونة وعلامة وتراث، وكلما اغتالوا أيقونة عجلوا، من حيث لا يعلمون، بهلاكهم، على أيدي أشباح لا يرونهم، ينهون هذه المهزلة.
رحلت شيرين، ولم ترحل، هذا ما نستطيع قوله وتأكيده، مَن يجرؤ على أن يجزم بأن عياش رحل؟ وأن الدرة رحل؟ وأن كنفاني رحل؟ وأن ناجي العلي رحل؟ وأن فلسطينياً، أياً كان اسمه وشكله، قُتل برصاص الاحتلال، رحل؟ هؤلاء لا يرحلون، وإنما يترفّعون عن هذا الجنون، يرتفعون فوقه، ليبقوا، يرشون الزهور فوق جباه المقاومين كل فجر، ويبصقون في وجه الجنود المدججين بالسلاح كل صباح، ويتولون مهمة حراسة الوطن من الأعلى.
انتقلت شيرين من البث الحيّ إلى الذاكرة، لا شيء أكثر، وأرشيفنا لا يُمحى ولا يعني القِدَم، وإنما العتاقة، كما تحفظ المخطوطات لتدل على زمن، ومكان، وحدث، وكما تحفظ العطور في قواريرها لتدل على رائحة، وتراث، وذكرى.
أرثي شيرين أبو عاقلة؟ من ذا الذي يفعل؟! لا أحد يستطيع رثاء من لا يموت، وحدهم الموتى الذين يجوز عليهم النعي، أما هؤلاء الأحياء على الدوام، فلا مراثي لهم ولا سرادقات عزاء.
لو أن شيرين ستقول شيئاً الآن ما كانت لتقول إلا الصمت، وابتسامة عريضة فوق جباهها، والمصور يشير لها من خلف الكاميرا، يقول لها إننا على الهواء، تضحك وتقول له إنني فوقه، تظهر من خلفها القدس مدينةً حرةً مبسوطة الجناحين، تتسع ابتسامة شيرين أكثر، تقول رسالتها الأخيرة: شيرين أبو عاقلة – القدس – فلسطين.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.