يمكنك أن تتخيّل: كيف تتراكم الضغوط على إسفنجة العقل الأمنيّ الإسرائيلي وهي تتلقّى هذه الضربات الثقيلة بالفؤوس والسواطير والخناجر وفوهات المسدسات الصغيرة، بينما تتحسّس رؤوسها خشية انهمار الصواريخ الجنوبيّة عليها إذا أخطأت قرون الإسفنجة حساباتها، وتجاوزت نقطة السّعة المبلوعة.
محاضنُ التوليد تكاثرت على عينها في مناطق 48، وعلى حسّها في القدس المحتلة والضفة الغربيّة، وعلى مداها في قطاع غزة، فيما تتحرك خيوط غائمة في الجنوب اللبناني قد تندفع دون توقعات لأدنى سبب غير مفهوم، وهناك جبهة نائمة رغم أن النيران تشتعل فيها على الحدود مع الجولان، يمكن أن ينقذف منها اللهب إذا تعقّدت العلاقة مع روسيا، وفتحت روسيا بوابة نار تأديبية على الإسرائيليين، إذا استمروا في اللعب بالنار في سياق الحرب الروسية الأوكرانية.
وهذه المحاضن لم تعُدْ تأبه كثيراً للألوان وموارد الأفكار؛ فهي تختال بين الألوان الخضراء والحمراء والسوداء والصفراء، وقد تنحاز إلى الألوان القويّة إذا وجدت لديها منفذاً إلى الفعل السريع، واللدغة القاتلة، والخَطْفة الجارحة.
هذا الواقع الأمنيّ الذي يمسّ المجتمع الداخليّ الإسرائيلي في قلاعه الحصينة، ويهزّه بشدّة، يرهق السياسيين الإسرائيليين المتوترين أصلاً، ويدفعهم نحو مزيد من التشدد العدميّ الذي لطالما استخدموه للحفاظ على استراتيجية بقائهم وبسط سيطرتهم، وهم، كلما غاصوا في هذا النمط العقابيّ، فإنهم يتورطون في الوحل أكثر، فكما أن المقاومة تبدو أنها لا تستطيع استثمار صمودها سياسياً في ظل انحطاط سياسيّ بالغ يكتنف المنطقة برمّتها؛ فإن القوة الإسرائيلية محدودة الفاعلية في أتون منطقة ملتهبة أصلاً، ولا تكاد تحتمل إشعال فتيل نار أخرى تقذف بالمنطقة نحو الفوضى في ظل هذا الاختلاط العالمي في صراع النفوذ والإرادات الدولية.
ولكن الأرق الكبير الذي تعيشه منظومة الأمن الإسرائيلية هو في كيفية السيطرة على هذه الأنماط المقاتلة، التي تستخدم القليل المتاح في مناطق الفراغ الأمنيّ غير المتوقّعة؛ حيث تعجز الدبابات والطائرات ومنظومات الإنذار المبكّر وانتشار السلاح في الجيوب الواسعة عن مواجهة قرارات ميدانية تَقْدح زنادَ إيمانٍ عميق بعدالة قضيةٍ، وشعورٍ عميق بالظلم، وانفعالٍ أعمق بالكرامة، وهو المزيج الحار الذي تنضجه استفزازات المستوطنين المتكبّرة الغبيّة في المسجد الأقصى، وسياسات الاحتلال العصبيّة التي لا يمكن تعديل اتجاهاتها.
والخطير لدى هذه الإسفنجة الإسرائيلية الصفراء، أنّ سياسة إضعاف الفصائل الفلسطينية وحصارها، ووضعها في خيارات ردع قاسية، أو حبسها في منظومة خيارات سياسية بائسة، قد جعلت عامّة الفلسطينيين بلا عنوان مباشر يمكن التعامل معه، فتحوّل كل الشعب إلى فكرة منظّمة على قدمين تحمل أهدافاً مباشرة تقع أمام عينيها، وهذا يعني أنّ المجتمع الفلسطينيّ الآن قد استوعب تجارب تاريخ الصراع مع المحتل، ونسَجَ خيوط المقاومة الشعبية المسلّحة التي تجتذب أحلام الشباب التوّاقين إلى النّزال بلا حسابات تردعهم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.