اذهب إلى القلعة الشامخة وتجوَّل فيها ومتّع ناظريك بشواهدها الخالدة وأوابدها الراسخة واذكر تاريخاً عتيداً مرّ بتلك الجنان، ثم ودعها سريعاً وحُثَّ الخُطى تجاه قلعة العِلم والثقافة وصرح الأدب الخالد، هناك حيث يلتقي الماضي بالحاضر والتاريخ بالجغرافية؛ إنها دار الكتب الوطنية.. عزُّ حلب التليد وحاضرها المجيد.
مع صفحة جديدة من صفحات مشرقة، وهذه المرة من عاصمة سوريا الثانية، زهرة المدائن ودرّة البلدان.
عاصمة الثقافة الإسلامية وعاصمة سوريا الاقتصادية، و"أم الفقير"، وملاذ المساكين، مدينة الصناعة والتجارة والعلم، إنها حلب. ولنا في حلب ذكريات لا تُمحى ولعلمائها أفضال لا تُنسى ولا تَبلى يعجز عن حصرها العادّ.
فـ "كلما رحبت بنا الروض قلنا حلب قصدنا وأنتِ السبيل"
طوَّقتنا حلب بدَينٍ نعجز عن وفائه، ففي جامعتها درسنا، وعن علمائها أخذنا، ولعل في هذا الحديث جزء من ردّ الدَّين.
ومن المفارقات أن الحديث عن حلب وحده يفرض علينا سلسلة خاصة به، بل وربما لا تكفيه كتب قائمة بذاتها، وهذا حق، إلا أنني آثرت أن أخص هذه المرة الحديث عن "دار الكتب الوطنية" في المدينة.
دار الكتب الوطنية
قد أخطأوا حين قالوا إن قلعة حلب تتوسط المدينة.. نعم لقد أخطأوا..!
إنها المكتبة العامة الشهيرة في حلب الشهباء، تتربع على عرش باب الفرج ملكةً من غير تاج.. متوجةً بالثقافة والحضارة والكتب النادرة الوفيرة.
تأسست الدار عام 1924 باسم مكتبة فرع المجمع العلمي العربي على يد العلامة الحلبي الشيخ كامل الغزي والقِسّ مينش؛ ولكن افتتاحها بمقرها الحالي تأخر إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية لأن فرنسا احتلت الموقع إبان احتلالها لسوريا.
ثم دُشِّن المبنى يوم الثلاثاء 4 كانون الأول/ديسمبر 1945، وقد تحدث يوم التدشين الشيخ راغب الطباخ عن المكتبة وعن تاريخ المكتبات عند العرب.
زار الكثير من أعلام الأدب العربي المكتبة الوطنية بحلب، وأقاموا فيها أمسيات ثقافية ومحاضرات، ومنهم الشاعران اللبنانيان بشارة الخوري (الأخطل الصغير) وأمين نخلة، والأدباء المصريون: طه حسين وأحمد أمين وعائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) وعباس محمود العقاد ومحمد حسنين هيكل ومحمد مندور وأمين الخولي والشيخ محمد أبو زهرة وأمينة السعيد ودرية شفيق، وغيرهم.
كما استضافت المؤرخين والشعراء والأدباء: نقولا زيادة وفؤاد صروف وجورج طعمة وميخائيل نعيمة وسامي الدروبي وعبد السلام العجيلي وفؤاد أفرام البستاني وغيرهم.
تعاقب على إدارة المكتبة الكثير من المدراء، بدءاً بالشيخ كامل الغزي فعمر أبو ريشة، مروراً بالأديب سامي الكيالي ويونس رشدي ومحمد غسان شرف وجلال ملاح وعلي الزيبق وغسان كيلاني ومحمد جمعة عفش وعدنان حموش ومحمد الأبوحمد، وغيرهم.
تتألف المكتبة من طابقين بثلاث قاعات ومسرح.
الطابق العلوي: يشمل قاعة مطالعة عامة وقاعة للدراسات والأبحاث- أطلق عليهما اسما عمر أبو ريشة وخير الدين الأسدي- ومخزناً للكتب؛ وخير الدين الأسدي يوجب علينا أن نفرد له حديثاً خاصاً أو كتاباً يحكي عن علمه وفضله.
الطابق السفلي: يضم مسرح المكتبة، الذي يتسع لنحو 300 شخص، وتقام فيه المحاضرات والفعاليات الأدبية والثقافية.
تضم المكتبة ثلاث قاعات للمطالعة:
قاعة المطالعة العامة (خير الدين الأسدي): وتتسع لحوالي 250 شخصاً.
وقد قضينا هناك أياماً طويلة مع رفاق العمر وزملاء الدراسة، وكان مما يشد انتباهي كثيراً ويأسر ناظري اسم عمر أبو ريشة (المُذَهّبَ بخط جميل في صدر المكتبة) الأديب السوري الذي ملأ الدنيا أدباً وعلماً، فأخذ في قلبي مكانةً لا يزاحمه فيها أحد منذ الأيام الأولى لزيارتي للمكتبة.
وقد كنت أرى من حُسن خُلق أمين المكتبة ومساعديه ما يدهشني، فقد كانوا يتعبون ويعملون بلا كلل أو ملل. الكتب كثيرة والإعارة متاحة للجميع، سواءً الإعارة الداخلية أو الخارجية ضمن شروط بسيطة وميسرة للجميع.
قاعة الدراسات العليا (عمر أبو ريشة): وهي مخصَّصة للمؤلفين وطلاب الدراسات العليا والصحفيين وحاملي الإجازة الجامعية، وتتسع لحوالي 50 شخصاً.
قاعة المحاضرات (سناء محيدلي): وهي مخصَّصة للمحاضرات والندوات والنشاطات المسرحية، وتتسع لحوالي 300 شخص.
مسرح المكتبة: أقيم فيه العديد من المسرحيات، خصوصاً في القرن الماضي لمّا كان للمسرح دوره الثقافي في المجتمع.
ومن أشهر المسرحيات التي أقيمت هناك مسرحية "عطيل" ومسرحية "الجزائر تثور" سنة 1956 لمؤلفها منير داديخي ومخرجها مأمون الجابري، ومسرحية العسل المسحور.
كما أقيم فيها الكثير من مسرحيات هادفة وثقافية تَميز به المسرح السوري واللبناني خلال القرن العشرين قبل أن يتآكل شيئاً فشيئاً دور المسرح بشكل عام وتضمحلّ الثقافة عموماً لدى أبناء الشرق وتضعف الهمم عن قراءة الكتب وتعلم العلم والرضا بالنزر اليسير مما يذاع هنا وهناك في وسائل الإعلام.
إنّ أمةً من الأمم لن ترقى ولن تستطيع خوض غمار السباق العلمي ولن تدخل في صناعة التاريخ من غير العودة إلى الكتاب وقراءته وحثّ المجتمع كله، أفراداً وجماعات، أطفالاً وشباباً؛ على التزود بالعلم والتسلح بالمعرفة، فكما قيل قديماً:
العِلْمُ يَرْفَعُ بُيُوتاً لا عِمَادَ لَها.. والْجَهلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ والْكَرَمِ
إطلالة على حلب
تعد حلب من أقدم المدن المأهولة في التاريخ؛ إذ يعود تاريخها إلى نحو سبعة آلاف عام، وكانت عاصمة للدولة العمورية الواسعة "يمحاض" التي وجدت في القرنين الـ18 والـ19 قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ ظلت مدينة حلب تلعب أدواراً مهمة في التاريخ الإنساني، وعبر كل الحقب التاريخية.
وفي العهد المسيحي أصبحت حلب أبرشية، وأقيمت فيها كاتدرائية ما زالت قائمة حتى اليوم، ثم دخلها المسلمون عام 636 للميلاد (16 للهجرة) وازدهرت في العهد الإسلامي، وكانت من أهم المدن في الفترة الأموية.
وتبرز أهمية حلب الاستراتيجية لأنها نقطة وصل رئيسة بين الشرق والغرب، كما ظلت طوال عهودها الغابرة مركزاً سياسياً واقتصادياً ودينياً وحيوياً مهماً بسبب توسطها بين العالمين الشرقي والغربي. وكانت ملتقى للقوافل التجارية ومفتاحاً للمبادلات التجارية بين الطرفين.
صنَّفت منظمة اليونسكو مدينة حلب ضمن المدن التاريخية لاحتوائها على أكثر من 150 من عيون الآثار التاريخية لمختلف الحضارات الإنسانية التي عاشت في المدينة وتعاقبت على حكمها حتى اليوم.
تُلقب حلب بـ "بالشهباء" وعُرفت واشتُهرت بصناعاتها العريقة المعروفة منذ القدم كصناعات النسيج وحلج القطن وصناعة صابون الغار وصناعات زيت الزيتون والصناعات الغذائية، كما تشتهر بالصناعات الحديثة المتطورة بكل أنواعها.
وتطورت هذه الصناعات في العصر الحديث لتشمل الأجهزة الكهربائية بأنواعها والمعدات والآلات الصناعية وصناعة هياكل السيارات وقطع الغيار والسيراميك والملابس الجاهزة والبلاستيك والصناعات الكيميائية والمشغولات الذهبية.
كما اشتُهرت مدينة حلب بسورها وأبوابها وأسواقها المتنوعة التي سُميت بأسماء الحرف والصناعات، مثل سوق العطارين وسوق الحدادين وسوق النحاسين، كما عُرفت أيضاً بمساجدها وكنائسها، ومن أهم مساجدها وجوامعها الجامع الكبير الذي بُني في العهد الأموي.
صدحت حناجر الشعراء في حلب بأعذب الشعر الخالد في دولة بني حمدان، وبزغت فيها شمس المتنبي وأبي فراس الحمداني والصنوبري وغيرهم من أعمدة الشعر العربي، أول ما يطالعك عند رؤيتها هو تلك القلعة الشماء التي تحكي صمود المدينة ضد الغزاة عبر السنين، وتروي لك قصة التاريخ ورجاله وعظمائه الخالدين.
ولا يخفى على أحد أن حلب حاضرة من حواضر الفن الجميل والغناء الأصيل حتى طبقت شهرتها الآفاق، وباتت "القدود الحلبية" على كل فم ولسان وتطرب لها الآذان، التي خُلِّدت بصوت الفنان الحلبي الراحل، صباح فخري.
ولا أجد خاتمة أختم حديثي عن حلب أفضل من هذه الأبيات:
ناجيت طيفك في الأحلام يا حلب.. فهزني في هواك الشوق والطرب
حداني الشوق للدار التي حملت.. رسالة الفكر لا خوف ولا عتب
وكل حاضرة في الشرق حاضرتي.. لكنّ أكرم دار زرتها حلب
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.