صدرت في الآونة الأخيرة العديد من البحوث والدراسات والمقالات حول ضرورة التعاون العربي المشترك لمواجهة الأزمة العالمية المستجدة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وما تنذر به من تغيرات سياسية واقتصادية كبيرة تحمل في طياتها الكثير من الأخطار التي تتهد بلدان العالم ودوله، لا سيما التي تفتقر إلى الأمن الغذائي وإمدادات الطاقة وغيرها.
وفي الحقيقة قام العرب منذ بداية الأزمة، وخاصة دول الخليج العربي، بانتهاج سياسة خاصة قائمة على شبه الحياد في هذه الأزمة، وعدم الاستجابة لطلبات الولايات المتحدة الأمريكية المتعلقة بزيادة صادرات الطاقة، أو دعم أوكرانيا في هذه الحرب والتصويت إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في مجلس الأمن.
وعند هذه النقطة، فإن العرب يكونون قد نأوا بأنفسهم عن هذا الصراع الدولي المستجد، وقاموا لأول مرة منذ عقود بانتهاج سياسة لا تؤيد صراحة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، والسبب في ذلك ربما هو أن الولايات المتحده نكثت بالكثير من الوعود والعهود والاتفاقيات مع دول الخليج لاسيما المملكة العربية السعودية.
ولقد أشرنا في مقال سابق إلى ضرورة التعاون والتكامل العربي، في ظل هذه الأزمة، وأهمية العمل على وضع استراتيجيات سريعة وفعالة لحماية الأمن الغذائي العربي كاملاً ولمختلف الأقطار العربية، من خلال التعاون الوثيق والبناء بين مختلف الدول العربية. لكن لا بد لهذا التكامل من أن يعتمد على شبكة نقل كبيرة وضخمة وموسعة لوصل ما انقطع بين الأقطار العربية، سياسياً وشعبياً، اجتماعياً واقتصادياً، وسيكون لهذه الشبكة العديد من المردودات الاقتصادية والسياسية المفيدة والمهمة لمختلف الدول العربية.
فعلى سبيل المثال، الدول العربية تفتقر في معظمها إلى شبكة قطارات سريعة داخلية لربط مناطقها ببعضها البعض، ونقل الأفراد والمنتوجات ومختلف البضائع داخلياً، ولا يوجد اليوم شبكة نقل سريعة بين الدول العربية (خارجياً) لنقل البضائع والأفراد وغير ذلك، علماً أن المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة انتبهتا مؤخراً لهذه القضية، وتعملان معاً على ربط أراضيهما بشبكة قطار سريع.
إن وجود مثل هذه الشبكة يؤمن انتقالاً سريعاً أقل كلفة للبضائع العربية، وفي حال إقرار خطط التكامل الزراعي، التي أشرنا إليها في مقالنا السابق، فإن الدول العربية ستحتاج إلى هذه الشبكة داخلياً لنقل المنتجات إلى مرافق التصدير، وخارجياً لنقلها إلى الدول العربية الأخرى.
كما ستساعد هذه الشبكة من سكك الحديد على تفعيل اقتصادات الدول العربية في مختلف الجوانب، من خلال تنسيق حركة نقل البضائع التجارية الأخرى، ونقل العمالة العربية بين مختلف الأقطار، سواء اليد العملة منخفضة التكلفة والمنتجة، أو اليد العاملة الكفوءة والمتخصصة، فضلاً على إسهام هذه الشبكة بتنشيط السياسة الداخلية في البلدان العربية، والسياحة العربية- العربية، بين مختلف الدول.
فإمكان العائلات متوسطة الدخل في الخليج أن تصل بالقطارات إلى لبنان وإلى مصر وإلى مختلف الدول العربية في شمال إفريقيا للسياحة وللاستجمام، وبإمكانها أن تعود في اليوم نفسه، كما أن العائلات الميسورة في مصر وشمال إفريقيا ولبنان تستطيع أن تنتقل بهذه القطارات للقيام برحلات تسوق وسياحة في الخليج لا سيما مع توجه هذه الدول إلى تنفيذ مشاريع سياحية جديدة كما في الإمارات والسعودية وبقية الدول العربية.
وعلى سبيل المثال لو تخيلنا أن العمالة العربية في الخليج تستطيع أن تأتي كل يوم من مصر والأردن ولبنان والسودان وليبيا… وغيرها من البلدان عبر القطارات لتعود في نهاية اليوم أو نهاية الأسبوع إلى دولها، فإن ذلك سوف يفعل اقتصادات الدول الفقيرة ويخفف من أعباء إقامة العمالة العربية في دول الخليج.
في الواقع إن وجود هذا النوع من وسائل النقل يضاف إلى شبكة نقل برية كبيرة ضخمة، بعد إعادة تأهيل الطرق القديمة وتوسعتها وشق طرقات جديدة، من شأنه أيضاً أن ينشط الحركة الاقتصادية والسياحية بين الدول العربية القريبة من بعضها. ولا بد لنجاح هذه التجرية المهمة من أن تترافق مع تسهيلات جمركية، وتسهيلات في عبور الأفراد، وتخفيف القيود بين الدول العربية أسوة بتجربة الاتحاد الأوروبي.
إن هذه الخطوات تكتسب أهمية خاصة، تفوق المردود الاقتصادي المتوقع لها، فهي تشتمل على زيادة التفاعل الثقافي والاجتماعي بين مختلف مكونات عالمنا العربي، وبين الشعب العربي في مختلف الأقطار، ما يساعد على التنمية المستدامة، ومعالجة مشكلة البطالة ويخلق فرص عمل عربية مشتركة، ويؤدي إلى التكامل المنشود في عاملنا العربي.
إن هذا التكامل بات اليوم أكثر من ضرورة مُلحَّة، وهو سيسهم بشكل كبير وبخطوات متسارعة في تخفيف الأزمات الاجتماعية والسياسية التي كانت تعصف بالعالم العربي، وهو ما سيؤدي بالتالي إلى رخاء الشعوب العربية وتقدمها وازدهارها، وسوف يؤدي حتماً إلى أن تعود الدول العربية آمنة مستقرة ومزدهرة، ولتتبوأ مكانتها الدولية التي تستحقها، فبلداننا تختزن طاقات مهمة وأدمغة عربية فعالة، ولا بدَّ من التوقف عن خسارتها بالهجرة واللجوء إلى مختلف دول العالم، فأوطاننا أولى بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.