في زحمة النشاط الخليجي في لبنان والتي تُوِّجت بعودة سفراء دول مجلس التعاون الخليجي السعودية والكويت وتعيين قطر سفيراً لها في بيروت، ثمة نشاط تركي ملحوظ في لبنان من بوابة الإغاثة والمساعدات التي بدأت تتدفق تباعاً منذ أشهر إلى لبنان وازدادت مع بدء شهر رمضان عبر بواخر تركية تحط رحالها في مرفأ بيروت وطرابلس؛ إما بمنح تقدمها الحكومة ومؤسساتها إلى القوى الأمنية والجيش أو تلك المقدمة للهيئة العليا للإغاثة، ومنها للبلديات اللبنانية على اختلاف انتماءاتها الدينية والمذهبية.
المساعدات
بالمقابل، تكثفت المساعدات التركية التي تواصل جمعيات تركية غير حكومية إرسالها إلى لبنان ووصلت إلى طرابلس عبر المرفأ بحضور كثيف لشخصيات رسمية ودينية وممثلي مؤسسات أهلية لبنانية، فيما تنشط هذه الجمعيات بشكل مكثف من انفجار مرفأ بيروت صيف العام 2020 وتستمر بتنفيذ مشاريع إنسانية وتنموية على كافة الأراضي اللبنانية، وهذا النشاط تُوّج ليلة رمضان بوصول سفينة "الخير" والتي احتوت على متنها نحو ألف طن من المساعدات الإنسانية والغذائية، والتي جرى توزيعها على العائلات الفقيرة في مناطق لبنانية متفرقة.
بالمقابل، تنشط وكالة التعاون والتنسيق "تيكا" لبنانياً عبر دعم مشاريع لبنانية حكومية أو غير حكومية وتجري العديد من الشراكات مع العديد من الوزارات والمؤسسات الحكومية وآخرها وزارة البيئة بالتعاون في مجالات النفايات الصلبة والحطب الصناعي، بالمقابل فإن هناك اهتماماً تبديه أنقرة لدعم صمود المؤسسات الأمنية، وهذا الاهتمام وفقاً للمعطيات يأتي في إطار التجاوب الحكومي التركي مع طلب رئيس الحكومة التركية نجيب ميقاتي، والذي يتواصل بشكل مستمر مع الجانب التركي بهدف اختلاق حلول لإنقاذ الجسم الأمني والعسكري في ظل الأزمة التي تعصف بلبنان مع الانهيارات العسكرية.
وهذا التجاوب التركي يأتي بعد شهرين من زيارة لرئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي مع وفد حكومي رفيع إلى أنقرة جرى خلاله نقاش معمق حول الأزمة المستحكمة في الاقتصاد اللبناني وامتداد الأزمة التي خلفتها كورونا على كل الدول النامية والمتعثرة، فيما طلب ميقاتي من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حينها فتح تركيا ذراعيها لاحتضان لبنان إنسانياً وتنموياً وسيترجم بمساعدات مستمرة في الغذاء والدواء ومشاريع التنمية للقرى والأرياف بالتعاون مع جهات حكومية لبنانية، بالمقابل فإن الزيارة اللبنانية لتركيا مطلع فبراير/شباط الماضي وما تمخض عنها من اتفاقيات ولقاءات ونقاشات معمقة عن التعاون، سبقتها زيارة لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو لبيروت ويقال حينها إن الأخير طرح على الحكومة الوليدة أن تقوم أنقرة بمشاريع حيوية في ملفات الكهرباء والنقل والنفايات.
لكن المؤكد أنه وعلى مدار العقد الأخير كان يتجنب أي مسؤول لبناني خوض غمار أي مشروع حيوي مع تركيا أو مع أي دولة أخرى لمجموعة عوامل واعتبارات طائفية أو حزبية أو لخشية إزعاج دول خليجية وتحديداً السعودية. وهذا النقاش تمظهر العام 2015 حين عرضت تركيا على بلدية طرابلس والتي تعتبر أكبر المدن السنية على البحر المتوسط بالقيام بتأهيل الوسط التجاري للمدينة وبناء سرايا حكومية جديدة، لكنه جرى "تطيير المشروع" خلال مرحلة حكومة تمام سلام بضغط من تيار المستقبل والتيار الوطني الحر.
الحضور التركي في لبنان
بالتوازي لطالما شكَّل الحضور التركي في لبنان عنواناً للتجاذب السياسي بين أطراف داخلية وخارجية تسعى لاستخدام هذا العنوان للتعبئة السياسية والطائفية، وقد شكَّل هذا العنوان مادة سجال خلال مرحلة حكومة حسان دياب والتي شهدت فترته العديد من الأزمات والانفجارات الاجتماعية والشعبية، والتي سعى وزير الداخلية فيها محمد فهمي (المحسوب على النظام السوري) من استجلاب حضور تركيا وتحميلها مسؤولية بعض الأحداث التي جرت في طرابلس شمالي لبنان.
فيما كانت جهات أمنية رسمية تؤكد نفيها لهذا الأمر، وهذا الخطاب سعى رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل لاستخدامه مراراً باتهام بعض القادة الأمنيين بممارسة "الشكاوى" بحق بعضهم لدى الجانب التركي وهذا الموقف تَبيَّنَ لاحقاً أنه جزء من حملة باسيل لحرق سفن خصومه ومنافسيه على الرئاسة، بالمقابل فإن تركيا تحرص باستمرار على التأكيد بشكل مستمر أنها غير معنية بأي حضور سياسي أو تدخلات أو دعم مجموعات سياسية في لبنان.
والمؤكد أن النشاط الإنساني التركي معطوفاً على عروض شراكات في قطاعات حيوية ليس بهدف الحضور السياسي والذي ترفض أنقرة الانخراط به لبنانياً لحساباتها الإقليمية، ويهدف هذا النشاط التركي لتأمين استقرار لبنان وأمنه بكونه أن أي اهتزاز أمني أو انفجار اجتماعي سيكون له آثاره على الدول المحيطة ومن ضمنها تركيا، وعليه فإن أنقرة تنشغل بملفات إقليمية أكثر سخونة وتشكل أولوية إما لأمنها القومي أو لموقعها الاقتصادي ويعتبر أكثر أولوية من لبنان؛ حيث تشكل الصادرات التركية للبنان حوالي المليار ومئتي مليون دولار وهي لا تشكل شيئاً لدول تبلغ الصادرات التركية فيها عشرات المليارات.
وفي إطار متصل لا يمكن إغفال الشعبية التي تتمتع بها تركيا عقب الانكفاء التدريجي للدول العربية عن لبنان، وعلى الرغم من تصدُّر السعودية للأرقام في الشارع السُّني بعد حضور سياسي يفوق الثلاثة عقود ونيف، فوفق استطلاعات للرأي بلغت الرياض 44% كتمثيل للمزاج السُّنّي، فإن تركيا وعلى الرغم من حضورها غير المكلف، والصغير مقارنة بدول خليجية، إلا أنها تبوأت المركز الثاني بحصولها على حوالي 20% في المزاج السُّني، فيما يتركز الحضور التركي على رعاية واحتضان التركمان من طوائف مختلفة بين بيروت وعكار والبقاع، وهذا الاهتمام ليس وليد اليوم بل امتداد لسياسة العدالة والتنمية باستعادة التركيز على الحضور التركماني في المنطقة بعد غياب تركيا عن المشهد الإقليمي لعقود خلت.
التعامل مع المكونات اللبنانية
بالمقابل، فإن الاستحقاق الانتخابي هو البوابة الرئيسية لأي طرف إقليمي لعرض عضلاته في المساحة اللبنانية، وهذا ما يبدو من العودة السعودية ودعم فرقاء مناوئين لحزب الله، ومساعي النظام السوري للحصول على كتلة برلمانية مؤيدة له، وتوحيد حزب الله لحلفائه لتمتين الحضور الإيراني في اللعبة الإقليمية الكبرى، فيما لا حضور تركي في المشهد الانتخابي، فالعديد ممن يعلنون قربهم من الجانب التركي لم يترشحوا للانتخابات بسبب عدم وجود أي دعم مالي أو سياسي تقدمه لهم أنقرة على غرار الدعم السعودي أو الإيراني لبعض القوى.
فيما الجماعة الإسلامية التي تُبدي حباً مجانياً لتركيا لا يجري دعمها ولا استقبالها بشكل رسمي في تركيا بسبب عدم وجود وزن سياسي أو برلماني لها، حيث تتعاطى أنقرة مع القوى السياسية بناءً على تمثيلها الرسمي برلمانياً وحكومياً، بالإضافة إلى أن التقارب التركي-العربي يحتم التخلي عن احتضان أي مكون إضافي تابع للإخوان.
في النهاية، فإن العديد من المراقبين باتوا يعتقدون أن ملف لبنان لدى إدارة العدالة والتنمية في تركيا ليس بأولوية في الوقت الحالي، لكنه قد يتقدم لاحقاً على قائمة سياسات أنقرة الخارجية ربطاً بملفات الترسيم الحدودي بين دول المتوسط، وخاصة أن تركيا مشاركة في الصراع العالمي المُستعر ليس على بلوكات الطاقة فقط، بل على ممرّات إمداداتها نحو القارة الأوروبيّة وخاصة بعد الحرب الأوكرانية- الروسية، فما يُستخرج من غازٍ لا قيمة له قبل وصوله إلى أوروبا، والسِّباق هو فيمن يصل أوّلاً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.