قصة عيد الفصح
يعد عيد الفصح أحد أهم ثلاثة أعياد يهودية توراتية على الإطلاق، إلى جانب عيد الأسابيع وعيد المظال.
يستخدم العهد القديم ثلاثة مصطلحات للتعبير عن عيد الفصح؛ هي الفصح، الفطير، العيد، وتعود تسمية هذا العيد بالفصح "پيتسَح" تحديداً إلى الاسم الذي يطلق على ذبيحة هذا العيد "الفصح" أي العيد الذي يتمركز حول تلك الذبيحة التي تؤكل عشية هذا العيد. أما تسميته بالفطير فيعود إلى كلمة "مَتسوت" التي يقصد بها الفطير غير المختمر.
ويبدو أن الأصل أننا أمام عيدين مختلفين؛ حيث كانت التوراة توظف اللفظين على أنهما عيدان اثنان يرتبطان بحادثة خروج بني إسرائيل من مصر. لكن بعد الانتهاء من تدوين العهد القديم -حيث أصبح العيدان مندمجين- صار الاسمان (الفصح والفطير) يستخدمان بالتبادل للدلالة على العيد نفسه.
وإذا كان أغلب العلماء يتفقون على أن الفصح والفطير عيدان منفصلان، إلا أنهم يختلفون في أصل العيدين والأسباب التي أدت للدمج بينهما وربطهما بالتاريخ.
يعتمد التقليد اليهودي في الاحتفال بعيد الفصح والفطير على نصوص كثيرة في أسفار التوراة الخمسة باستثناء سفر التكوين؛ ويفرض التقليد اليهودي على كل بيت بأن يجهز شاة عمرها سنة من ذكور الأغنام أو الماعز، وأن تكون هذه الشاة جاهزة من يوم العاشر من شهر نيسان (11 أبريل هذا العام) ليتم ذبحها يوم الرابع عشر من أبريل/نيسان وهو يوم العيد الأول الذي يوافق يوم الجمعة 15 أبريل هذا العام. والأصل أن يكون الاحتفال بعيد الفصح في المواعيد المذكورة، إلا أن بعض الظروف كوقوع نجاسة للمس ميت، أو السفر قد تؤدي إلى تأجيل الاحتفال للشهر الذي يليه، وهذا بالطبع يكون في حالات فردية.
وتفرض نصوص التوراة أن تشوى الذبيحة على النار، وتحرم أن تطبخ بأي طريقة أخرى، على أن يؤكل معها أعشاب مرة، وفطير غير مختمر. يوم الاحتفال الأول هذا الذي تذبح فيه ذبيحة الفصح يتبعه في اليوم التالي احتفال آخر، يبدأ في ليلة يوم 15 نيسان ويمتد لسبعة أيام، ويسمى عيد الفطير، وفيه يجب أن يتجنب اليهود الخمير، ويأكلون فقط فطيراً غير مختمر طوال هذه الأيام. ونظراً لتحريم أكل أية مخبوزات مختمرة منذ بداية الفصح وحتى نهاية الفطير فقد درج العرف عند اليهود على تسمية ليلة الرابع عشر من نيسان، وهي ليلة العيد الأولى، بليلة البحث عن الخميرة، ويقوم فيها اليهود بالتأكد من خلو بيوتهم تماماً من أية خميرة صالحة للخبز.
ويلاحظ هنا أن ذبيحة الفصح وطريقة طهوها توحي بأننا أمام عيد رعوي يتناسب مع البيئة البدوية، بينما يتناسب عيد الفطير وما يؤكل فيه مع مجتمع مستقر يحتفل بعيد زراعي في الربيع، ولذلك فإن التوراة تسمي شهر الاحتفال بعيد الفصح أو الفطير شهر أبيب الذي يعني الربيع في العبرية، وهذا يدعم الاعتقاد بأن الاحتفال بعيد الفطير لم يحدث إلا بعد استقرار بني إسرائيل في أرض كنعان (فلسطين).
وإذا كان احتمال أن أصل العيدين -عيد الفصح وعيد الفطير- ينتمي لبيئتين مختلفتين، فإن ذلك يفسر لنا سبب اختلاف نوع الطعام الذي يتم تناوله؛ لأن نوع الطعام (الغنم للرعاة، والفطير للمزارعين) يظهر أننا أمام الطعام الأكثر أهمية في كل بيئة منهما. ولما كان العيدان ربيعيين فربما كان ذلك هو السبب في الربط بينهما واعتبارهما عيداً واحداً فيما بعد.
خروج بني إسرائيل من مصر
وإذا ذهبنا لذبيحة الفصح سنجد لها أحكاماً تتناسب مع العجلة التي كان عليها بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر. وترتبط قصة هذه الذبيحة بإحدى الضربات العشر التي ضرب الرب بها المصريين وهي إهلاك كل بكر في مصر من الناس وكذلك من البهائم؛ فقد قضى الرب أن ينتقم من المصريين بأن يموت كل ابن بكر أو بهيمة في كل بيت في مصر، وأمر الرب موسى أن يقوم بنو إسرائيل بوضع علامات من دم هذه الذبائح على بيوتهم حتى يتعرف ملاك الرب على بيوت بني إسرائيل فيتجاوز عن إهلاك أي بكر فيه.
"فإني أجتاز في أرض مصر هذه الليلة وأضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم.. ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر".
ذبح أبكار الغنم أو البهائم من الذكور سيصبح فيما بعد توجيهاً دائماً يقام سنوياً، وهو تقليد نظر إليه العهد القديم على أنه طريقة للتذكير بمعجزة الرب في تخليص بني إسرائيل عن طريق إهلاك كل بكر في مصر، وهو في نفس الوقت شكل من أشكال الفداء وهو ما عبَّر عنه العهد القديم بشكل واضح. بل إن بعض عبارات سفر الخروج التي أمرت بجعل هذه الأحكام علامة على اليد وعصابة بين العينين (الخروج 13: 16) في إشارة لضرورة الالتزام الشديد بها وتذكر نعم الرب ومعجزاته، سيحولها اليهود وفق فهمهم المادي الحرفي في عصور لاحقة إلى التزام طقسي فينشأ عنها ما يعرف بالتفلين وهو عبارة عن صندوق خشبي يوضع على جبهة الرأس وعلى عضد اليد اليسرى مربوطا بأشرطة سوداء ويكون بداخلها نصوص دينية توراتية.
اللطيف هنا أن اسم عيد الفصح في اللغة الإنجليزية ارتبط بقصة تجاوز ملاك الرب وتخطيه لبيوت بني إسرائيل وعدم إهلاك أبنائهم بسبب وجود علامة الدم على مداخل بيوتهم فسمي passover (pass over)، ولعل ذلك أيضاً السبب في أن إحدى تسميات هذا العيد في العربية "الفسح" من الفعل فسح وهو بمعنى "فصل" ويمكن فهمه بمعنى الفرج بعد الكرب في هذا السياق. لاحقاً ستصبح مسألة وضع علامة الكف المغموس بالدم على جدران البيوت أو أبوابها عادة يفعلها كثير من المصريين عند ذبح الأضاحي دون أن يعلموا لماذا يفعلون ذلك، أو من أين أتت، والأرجح عندي أنها دخلت إلينا بتأثر من التقليد اليهودي وقت إقامة اليهود في مصر.
وقد أراد كاتب النص الذي عالج طريقة أكل الذبيحة أن يعكس حالة العجلة عند استعداد بني إسرائيل للخروج من مصر، فأوجب أكلها ليلاً وعلى عجل، وهم في كامل لباسهم مشدودة أحقاؤهم، ينتعلون أحذيتهم، ويمسكون بعصيهم وكأنهم سيتحركون مباشرة بعد أكلها. وأن تؤكل الذبيحة كلها لحمها ورأسها وأكارعها وجوفها، فإذا بقي منها شيء يحرق في نهار اليوم التالي، وألا يعطي منها للغريب، ولا الأجير، ولا غير المختون. وقد أصبح الاحتفال بالعيد على هذا النحو توجيهاً توراتيّاً يقام في الموعد نفسه سنوياً، كي يتذكر بنو إسرائيل ما فعله الرب لإنقاذهم.
وقد انشغل بعض الباحثين بمحاولة الإجابة عن سبب أكل الفطير غير مختمر فذهب بعضهم إلى أن إضافة الخميرة إلى العجين تؤدي إلى تغيير حالته، وأن الرب أراد أن يكون ما يقدم له أو يتناوله بنو إسرائيل في ذلك العيد في حالته الأصلية أو في أقرب حالة لذلك. وذهب آخرون إلى أن الخميرة هنا استخدمت استخداماً رمزياً لترمز إلى الفساد، فيكون أكل الفطير أو الخبز بدون خمير منبهاً -بهذا المعنى– إلى تجنب الفساد والإفساد.
وإذا كان العيد يمتد ثمانية أيام؛ فإنها لا تحظى كلها بنفس درجة الأهمية، فالأهمية الكبرى تكون لليومين الأولين واليومين الأخيرين، وينظر إليهما بوصفهما العيد الكبير، وفيه يلتف الأفراد حول كبير العائلة ليستمعوا منه إلى تفاصيل القصة وكيف أنقذ الرب بني إسرائيل، فتبقى ذاكرتها في الأذهان.
وكان اليهود قبل إعلان "الكيان الصهيوني" قد درجوا على تهنئة بعضهم بعضاً بعبارة "السنة القادمة في أورشليم" وهي العبارة التي وظفتها الصهيونية لاحقاً كمدخل لتحقيق مطامعها في فلسطين.
"عيد الفصح".. والميدان المشتعل
كنت أود أن يبقى المقال ثقافياً، وأن ينتهي دون التطرق للسياسة، إلا أن عيد الفصح وأكل الفطير غير المختمر كان له أثر واضح هذا العام في الوضع السياسي في إسرائيل؛ فخلال الأيام الماضية تعرضت الحكومة الإسرائيلية لضربة مؤثرة تهدد استمرار الائتلاف الحاكم في إسرائيل، على إثر إعلان عيديت سيلمان النائبة عن حزب يمينا عن انسحابها، وإعلانها أنها لا تستطيع أن تكمل في هذا الائتلاف وأنه من الممكن تشكيل حكومة يمينية خالصة، ولقائها بنتنياهو وانضمامها لليكود.
وقد تناولت الأخبار أن أحد أسباب استقالة سيلمان يرجع إلى قرار وزير الصحة نيتسان هورفيتس وهو عضو عن حركة ميرتس من أقصى اليسار بالسماح بالخبز المختمر في المستشفيات الإسرائيلية خلال عيد الفصح، وهو ما يعد انتهاكاً لأحكام الشريعة اليهودية التي يتمسك بها اليمين بشدة، وهذا دعا سيلمان إلى الإقدام على قرارها المشار إليه ليصبح الائتلاف الحاكم على شفا الانهيار بعد أن تقلص أعضاؤه إلى 60 عضواً بانسحاب سيلمان.
وإذا كان المعتاد سنوياً أن تكون الاحتفالات بعيد الفصح مصدر اضطرابات في القدس وتحديداً في المسجد الأقصى والمناطق المحيطة به بسبب إصرار أنصار اليمين الإسرائيلي والتيارات الدينية هناك على ممارسة طقوسهم في المسجد الأقصى وساحاته على أساس زعمهم الخاطئ بأنه مكان هيكل سليمان وأنهم مأمورون بذبح الفصح في الهيكل إنفاذاً للأمر التوراتي "فتذبح الفصح للرب إلهك غنما وبقرا في المكان الذي يختاره الرب"، فإن الأيام القادمة مرشحة لتشهد أحداثا مشابهة، خاصة أن العوامل التي أدت لخروج الأمر عن السيطرة –بشكل مقصود– خلال العام الماضي، ودخول عرب 48 (فلسطينيّي الداخل) على خط المقاومة دفاعاً عن المسجد الأقصى، وصولاً إلى تدخل المقاومة في غزة واندلاع معركة دارت رحاها في شهر مايو/أيار من العام السابق متوفرة كلها.
فقد كانت محاولات إفشال أو إنجاح جهود تشكيل الحكومة الإسرائيلية بعد انتخابات الكنيست مارس/آذار 2021 أحد هذه العوامل، إضافة لتزامن الاحتفال بالفصح مع شهر رمضان. ومن الواضح أن تأزم الوضع السياسي في إسرائيل حالياً، وتقلص أعضاء الائتلاف بعد انسحاب سيلمان واحتمالية سقوط الحكومة والذهاب لانتخابات جديدة، وتزامن ذلك كله للعام الثاني توالياً مع شهر رمضان قد يقود إلى أحداث لا تقل سخونة عن أحداث العام الماضي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.