انتهت منتصف ليلة أمس (4 أبريل/نيسان 2022) المهلة القانونية لتسجيل اللوائح الانتخابية في لبنان، حيث رسا العدد النهائي رسمياً في وزارة الداخلية على ١٠٣ لوائح، واعتباراً من اللحظة، ستبدأ رحلة الأربعين يوماً، التي ستختبر مناعة هذه اللوائح والتحالفات التي بُنيت عليها، وقدرتها على الصمود في وجه بعضها البعض، والأهم من كلّ ذلك، مدى قدرتها على اختراق المزاج الشعبي المحبط جراء تمدد السلطة وأدواتها ونتيجة تشتت قوى التغيير.
لكن الأساس اليوم وبعد تسليم اللوائح والتحالفات، بِتنا أمام مشهد جديد، تبدو فيه المهمّة سهلة على المعنيين بالاستحقاق الانتخابي، وخصوصاً أنّ المعركة السياسية باتت من الآن وفق مسارين لا ثالث لهما.
الأول في اتجاه الناس، وهنا التحدّي الأكبر بالنسبة للأطراف الحزبية، في محاولة ترويج برامجها الانتخابية التي يجمعها قاسم مشترك وحيد، هي عناوينها ومسلّماتها السياسية والحزبيّة التقليدية الثابتة، وكذلك الرمي العشوائي، على سطح المشهد الانتخابي، لشعارات ووعود مبالغ فيها كما جرى في العام 2018.
فيما المسار الثاني، فهو الذي لا يقلّ صعوبة عن جذب الناخبين، ويتمثل بالمعارك الحقيقية المنتظرة يوم الانتخاب داخل اللوائح، بحيث تتحول إلى لوائح تطحن نفسها، على غرار ما ساد في تجربة الانتخابات السابقة في العام 2018، حيث تحوّلت اللوائح الحزبية على وجه الخصوص، إلى ساحات للمعارك في داخلها، بحيث بدلاً من أن تكون المنافسة على أشدّها مع اللوائح المتنافسة، تحوّلت المنافسة إلى منافسة بين المرشحين ضمن اللائحة ذاتها، للحصول على الصوت التفضيلي بأي ثمن، وكل الوعود التي قُطعت بالالتزام بالأخلاقية الانتخابية، وما إليها، قد تراجعت الأحزاب عنها، وحصرت صوتها التفضيلي بالمرشحين الحزبيين دون غيرهم.
وهناك سلة من المعطيات السياسية المتعلقة بالانتخابات لا يمكن تجاوزها وتمظهرت أولاً: بالصراعات التي أرهقت القوى والمجموعات الثورية الخارجة من رحم انتفاضة 17 تشرين ما جعلها تفشل في بناء لوائح موحّدة قادرة على إحداث التغيير المنشود والمأمول في توازنات المجلس النيابي المقبل كما طالب وما يزال يطالب أكثر من نصف اللبنانيين وفقاً للإحصاءات التي قدمتها جهات محلية وخارجية.
وعلى الرغم من الاتهامات التي يطلقها حزب الله بحق تلك المجموعات وولاءاتها السياسية الخارجية، فإن أياً من الجهات الدولية لم تساهم بوقف نزيف الصراع القائم بين تلك الجماعات والتيارات الجديدة، وهذه المعارك على تقسيم المقاعد واللوائح أدت إلى تراجع ثقة المجتمع اللبناني بنظريات التغيير والأوراق السياسية والاقتصادية التي تطرحها قوى التغيير.
فيما عوامل التمويل التي جرى العمل عليها مع جهات متمولة وضعت شروطاً لاستمرار دعمها وهو اقتناعها بوجود رغبة بالعمل المستمر وترشيح أسماء جدية قادرة على تشكيل بديل فعلي عن الطبقة السياسية الحاكمة، فيما الأداء الفعلي كان عكس المأمول، حيث اختلف الجميع على جنس الملائكة وتمظهرت الأنانية لدى المرشحين ومجموعاتهم تماماً كما تعكسه قوى السلطة، وجرى تحقيق أهداف الأحزاب السياسية عبر الصراعات والخروقات وتعدد اللوائح والذي سيؤدي في نهاية المطاف لتشتيت الأصوات خدمة للوائح السلطة التي ستجمع شتات أمرها وستستفيد من هذا الواقع لزيادة حجم كتلها وحضورها السياسي.
وهذا الواقع الذي كانت ترقبه الدول الفاعلة دون تحريك ساكن؛ لأنها باتت ترى أنها حققت هدفها الأساسي الذي عملت عليه وهو تأمين حصول الانتخابات في وقتها لمنع سقوط النظام الهيكل المؤسسي للدولة الوطنية عبر آلية عمل تكريس النظام الديمقراطي وتداول السلطة الذي كانت تهدد أكثر من مرة في السابق، ليس فقط على مستوى الاستحقاق النيابي، بل خصوصاً على مستوى الاستحقاق الرئاسي.
فيما المعطى الثاني هو المزاج المسيحي العام، والذي يتحضر في سياق تجهيز الأرضية السياسية اللبنانية لمرحلة ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، مع التركيز على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، وعدم السماح بتأجيلها. فيما هناك قناعة مسيحية ولبنانية عامّة بأن التيار الوطني الحر هو أكثر المستفيدين من تأجيل الانتخابات، في ظل ما يحكى من انقسامات حاصلة في جسم تيار وجمهور باسيل بينما الإحصاءات باتت تؤكد تراجع باسيل وتياره على كل المساحة الوطنية على الرغم من مساعي حزب الله لتوفير بيئة تحالفات تتيح بقاء التيار على حاله كحزب مسيحي قوي في ظل تقدم حظوظ فوز القوات اللبنانية والكتائب ومسيحيي الثورة.
وعليه سعى حزب الله قُبيل ساعات من إغلاق مهلة تسليم اللوائح من عقد صفقة انتخابية في أكثر الدوائر حماوة والتي تلقب "دائرة رؤساء الجمهورية" لجمع باسيل وتياره مع سليمان فرنجية وتيار المردة في لائحة انتخابية واحدة في دائرة الشمال الثالثة، لكن ضغوط حزب الله الشديدة فشلت في الجمع بين جبران باسيل وسليمان فرنجية انتخابياً؛ لأن فرنجية الذي لوحت له واشنطن بالعقوبات وفرضت عقوبات على لصيقين به لا يريد التحالف مع باسيل، لأسباب تاريخية تعود لمرحلة تبني معظم الأطراف لفرنجية لمنصب الرئاسة وأفشلها باسيل مدعوماً من حزب الله لإيصال عمه ميشال عون لهذا الموقع.
والحزب كان يسعى من هذا التحالف إلى تطويق مساعي القوات اللبنانية بالإضافة لقوى الثورة بالفوز في هذه الدائرة، كما بات حزب الله يسعى لتشكيل كتلة تفاوضية يستفيد منها مستقبلاً لعودة سوريا للحضن العربي عبر كتلة وازنة تعيد مرحلة س-س أي توازن السعودية وسوريا.
لذا فإن حسابات فرنجية باتت حسابات مستقبلية مرتبطة باستحقاق رئاسة الجمهورية والذي يرفض البطريرك الراعي مدعوماً من الفاتيكان ومصر والإمارات إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها ورفض التمديد لميشال عون، وهذا الحراك يهتم فرنجية لمواكبته بحسابات مستقبلية في سياق علاقته بسوريا وببعض الدول العربية وهو يسعى دائماً لمغازلة السعوديين والمصريين والتواصل مع القطريين، وخاصة في ظل ما يحكى عن صراع محتدم في محور سوريا-حزب الله.
فيما المعطى الثالث والمهم متعلق بمصير الشارع السني وقيادته وحضوره السياسي، فالسعوديون يتحضرون لعودة إلى لبنان مرتبطة بمفاوضات جارية لحل أزمة اليمن، وهذا الملف يشغل بال ولي العهد السعودي وينطلق منه لحل كل الأزمات والإشكالات السياسية مع دول الإقليم، وهو بات يفوض القطريين في ملفات حساسة لوقف النزاع الجاري يمنياً.
والقطريون على الخط اللبناني بالتنسيق مع الكويت ومصر، ومدير مخابراتهم زار بيروت مرتين خلال 10 أيام والتقى جهات فاعلة لبنانياً وإقليمياً كحزب الله والرئيس فؤاد السنيورة وسيحط وزير الخارجية القطري في بيروت خلال أيام لمواكبة مسار عودة التوازن العربي للبنان، فيما أمير قطر أبدى لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، استعداد بلاده لاستضافة أي مؤتمر حوار مرتقب على ملفات خلافية شريطة إجراء الانتخابات النيابية والرئاسية.
والعودة السعودية التي تستكمل نهاية الأسبوع الحالي بعودة السفير وليد البخاري، جرى استباقها باتصال أجراه كل من رئيس المخابرات السعودية خالد الحميدان ومن ثم السفير وليد البخاري بالرئيس فؤاد السنيورة والذي يقود مساعي الحفاظ على الحضور السني في المعادلة الوطنية اللبنانية وهو ما فهمه البعض دعماً سيترجم قريباً للسنيورة وحركته المنسقة مع وليد جنبلاط وسمير جعجع.
وعلى الرغم من النقاشات الدائرة حول حتمية إجراء الانتخابات في موعدها والتحضيرات اللوجستية والسياسية والإدارية لإتمامها في 15 مايو/أيار المقبل فإن احتمال تفجير الاستحقاق المنتظر يبدو مطروحاً فيما إذا فشلت المفاوضات الإقليمية والدولية وتعرقلت.. فلننتظر!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.