قد تكون المعلومات عن زيارة رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى دولة الإمارات العربية المتحدة شحيحة جداً، إذ بدا أنّ الطرفيْن اكتفيا ببيانيْن مختلفيْن في المقاربة، ففي حين قال البيان الإماراتي الذي نشرته وكالة الأنباء الإماراتية (وام) إنّ اللقاء "تضمّن تأكيد الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وانسحاب القوات الأجنبية"، جاء في وكالة الأنباء السورية (سانا) التأكيد على أنّ "موقف الإمارات ثابتٌ في دعمها لوحدة أراضي سوريا واستقرارها"، و"على ضرورة انسحاب كلّ القوات الأجنبية الموجودة بشكلٍ غير شرعي على الأراضي السورية".
ما يعني أنّ الوجود الأجنبي في سوريا ليس موضوع تلاقٍ، فالوجود الروسي والإيراني شرعي بالنسبة للأسد، إلا أنّ كل وجود أجنبي هو غير ذي قبول عند الإمارات. من هنا يبدو أنّ الموضوع أبعد من وحدة أراضي سوريا ووجود أجنبي على مساحتها.
زيارة الأسد استكمال مسار
تندرج زيارة الأسد إلى أبوظبي في سياق مسارٍ بدأ قبل أعوام، فقد أعادت الإمارات علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق في نهاية العام 2018، والتحق عدد من الدبلوماسيين بوظائفهم، لكن الولايات المتحدة تدخلت لفرملة الاندفاعة الإماراتية نحو دمشق، خلال زيارة لوزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو لأبوظبي في شهر يوليو/تموز من العام نفسه.
كما اتصل ولي العهد الإماراتي الشيخ محمد بن زايد بالأسد، في مارس/آذار 2020، عارضاً المساعدة بالتصدي لوباء كورونا، تَبِعَتْه زيارة لوزير التجارة السوري لدبي في أكتوبر/تشرين الأول 2021، فزيارة لوزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد إلى دمشق، في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، على رأس وفد رفيع. وآنذاك عُقد لقاء مع الأسد في خطوة أنبأت بفتح صفحة جديدة بين البلديْن.
وبعدها، قادت الإمارات حملة دبلوماسية لـ"إعادة سوريا إلى الحضن العربي" وجامعة الدول العربية، ولو أنّ الأمر لم يعجب الولايات المتحدة الأمريكية ولا فرنسا وألمانيا في ذلك التوقيت. كما هاجم مندوب السعودية في الأمم المتحدة، خلال اجتماع الجمعية العامة، الخميس 16 ديسمبر/كانون الأول 2021، عبدالله المعلمي، النظام السوري بشدة متسائلاً: "ما النصر الذي حققوه إذا وقف زعيمهم على هرم من الجثث؟". واتهم المعلمي النظام السوري بأنّه أوّل من فتح الأبواب لاستقبال "حزب الله"، الذي وصفه بـ"زعيم الإرهاب"، وغيره من التنظيمات "الإرهابية".
الأسد هو مَنْ طلب زيارة الإمارات؟
توقيت زيارة الأسد اليوم، وهي الأولى له عربياً منذ العام 2011، يضطلع بأهمية لافتة لسببيْن، فهي تتزامن مع الحرب الروسية على أوكرانيا، ومع اقتراب المفاوضات النووية بين إيران ودول الخمسة زائد واحد من الوصول إلى خواتيمها، والأسد يتمتع بعلاقات متينة مع كل من روسيا وإيران.
من هنا تردّد مصادر مطلعة أنّ الأسد هو من طلب زيارة الإمارات ولقاء بن زايد، حاملاً رسالة شديدة الأهمية من موسكو، وقد حمّله ولي عهد أبو ظبي رسالة بدوره من السعودية إلى إيران، تسلّمها وزير الخارجية الإيراني أمير عبد اللهيان، الذي حطّ في دمشق، الأربعاء 23 مارس/آذار الجاري، قبل التوجه إلى لبنان، كما تؤكد المصادر أنّ رسائل من إسرائيل نُقلت أيضاً، خاصة أنّ إسرائيل تعمل على إقناع الإمارات، ومن خلالها دول الخليج، بضرورة العودة إلى سوريا من دون إبطاء.
ولعل الاجتماع الثلاثي الذي عُقد في 22 آذار/مارس، بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، والشيخ محمد بن زايد في شرم الشيخ جاء لافتاً للانتباه، كونه جاء بعد بضعة أيام على زيارة الأسد، وبحسب البيان الذي صدر عن اللقاء، ركّز السيسي وبينيت وبن زايد على التطوّرات المتعلقة باحتمال إحياء الاتفاق النووي الإيراني والحرب الروسية-الأوكرانية. ومن المرجح أن يكون بن زايد قد أطلع محاوريه المصريين والإسرائيليين بتفاصيلها. هي إذن زيارة متعددة الأضلاع تتصل بإسرائيل، وروسيا، وإيران والعرب.
واشنطن تحصد ما زرعته في الخليج
وتزامنت هذه الزيارة مع توقيت يناكف فيه السعودي والإماراتي الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال رفضهما زيادة إنتاج النفط، التزاماً باتفاقات "أوبيك بلس"، التي أبرمت بانضمام روسيا إلى المنظمة في العام 2016.
مناكفة تسبّب بها انكفاء الولايات المتحدة وعدم اكتراثها بمصالح دول الخليج منذ اندلاع حرب اليمن، وخاصة عندما تعرضت السعودية لهجمات حوثية بأسلحة إيرانية، في سبتمبر/أيلول 2019، وبعد تعرّض مطاري دبي وأبوظبي ومصفاة النفط في المصفح وعدد من المواقع والمنشآت لهجمات بالمسيرات، في يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط الماضييْن، علماً أنّ هذه الهجمات أدت إلى سقوط ضحايا من المدنيين، ناهيك عن عدم الاكتراث الأمريكي بمخاوف الخليج من الاتفاق النووي الذي على وشك التوقيع في وقت قريب.
لا يخشى الخليجيون السلاح النووي الإيراني، فهم يعلمون أنّ الكثير قد تغير بين العام 2015، عندما أُبرم الاتفاق، واليوم، فتهديد إيران اليوم لدول المنطقة يقوم على صواريخ باليستية دقيقة ومسيرات وأذرع أمنية، والدول الغربية لا تلحظ التهديدات تلك، ما استدعى الاستدارة الإماراتية، في تمهيد ربما لاستدارة خليجية وعربية أوسع.
تلازم السياسة والاقتصاد
للاندفاعة الإماراتية أهداف اقتصادية أيضاً، فنظراً إلى موقع سوريا الاستراتيجي يمكن لعودة العلاقات بين البلديْن أن تصبّ في مصلحةِ استراتيجيةِ أبوظبي الاقتصادية الجديدة، لا سيّما فيما يتعلق بالتجارة والطاقة. وترمي هذه الاستراتيجية إلى ترسيخ موقع الإمارات لتكون في صلب التدفقات التجارية وتدفقات الطاقة بين آسيا وإفريقيا وأوروبا.
وفي هذا السياق، تبدو العودة إلى أوائل العام 2019 منطقية، وذلك حين أنشأت شركة موانئ دبي العالمية العملاقة للخدمات اللوجستية ممر نقل يمتد على 2500 كيلومتر من ميناء جبل علي في دبي، إلى معبر نصيب جابر الحدودي بين الأردن وسوريا. وبناء عليه يمكن اعتبار الانفتاح الإماراتي على سوريا سعياً إلى قطع الطريق على المنافسين المحتملين، وبالتالي تحقيق مكاسب اقتصادية أكبر.
أهداف إماراتية محددة ونظام إقليمي جديد يبصر النور
منذ ما قبل انتخاب جو بايدن، قرّرت الإمارات السعي إلى حماية استقرارها وتطوير حضورها وتوسعة نفوذها اعتماداً على مقدراتها الذاتية، وهكذا تزاحمت المصالحات الإماراتية مع قطر وتركيا وإيران، وتعززت علاقات الإمارات التجارية والعسكرية مع الصين وروسيا.
وبالعودة إلى احتضان الأسد في الإمارات، فإنّه جاء بوصفه نقطةَ تلاقٍ مع إيران وروسيا، وقادراً على لعب دور الوسيط لإبرام صفقة إقليمية مع إيران. وعلى الضفة المقابلة، يمكن للإمارات التوسط بين الأسد وإسرائيل لضمان الاستقرار على حدودها مع سوريا أولاً، ومن خلال الدفع نحو ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ثانياً. وكون سوريا حلقة وصل جغرافية وباباً واسعاً للاستثمار إذا ما تقرر إعادة إعمارها، فيمكن فهم العودة إليها من باب صياغة نظام إقليمي جديد يواكب الانسحابات الأمريكية المتعاقبة.
إلاّ أنّ إرساء هذا النظام الجديد لا يخلو من المخاطر، فلا يمكن إغفال الغضب الأمريكي والأوروبي المتزايد، والتلويح الدائم بقانون قيصر، الذي يكبِّل أيدي من يرغب في الاستثمار في إعادة إعمار سوريا أو في تنفيذ المشاريع فيها.
وعلى الرغم من انشغال الغرب بالحرب الروسية على أوكرانيا، وبالسعي إلى حل أزمة الطاقة والغذاء الحادة المرتقبة، وتفاديه افتعال أزمة مع "الشركاء التقليديين"، يُخشى من انحسار هامش المناورة الإماراتية والخليجية، إذا ما استعاد الجمهوريون الأغلبية في الكونغرس، في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
كل ذلك يؤشر إلى أنّ الزيارة خطوة تهدف إلى لفت نظر الغرب والعرب إلى قدرات الدول الإقليمية ذات الحضور والاقتصاد الكبيريْن، ويؤشر أيضاً إلى أنّ مشهداً جديداً في طور التبلوُر. وبانتظار الترجمة العملية في الإقليم، تنفتح الأطراف المعنية على بعضها من دون اتخاذ قرارات قد تدفع المنطقة إلى مرحلة من الاضطرابات.
وإلى أن تتضح مآلات الحوارات واللقاءات، تبقى زيارة الأسد محاطة بكتمان، لتضارب الملفات المثارة من جهة، وصعوبة استخلاص نتائجها في ظل التعقيدات الإقليمية والدولية من جهة ثانية، إلّا أنّها تفتح أبواباً مغلقة ولو بشكل محدود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.