ظلَّت أوكرانيا تحصل ولأعوام طوال على الغاز الروسي بتكلفة زهيدة للغاية مقارنةً بالدول الأخرى التي تعتمد على الغاز الروسي مثل تركيا وبولندا والمجر وألمانيا. ومع بزوغ فكرة إنشاء خط للغاز (نورد ستريم) يربط روسيا بقارة أوروبا بشكل مباشر مروراً ببحر البلطيق خشيت أوكرانيا من خسارة أفضليتها فى نقل الغاز الروسي لأوروبا عن طريقها بعد أن كانت تأمل التفاوض للحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع روسيا.
ولطالما استخدم الروس الغاز كإحدى وسائل الضغط السياسي على أوكرانيا، ففي عام 2009 وبسبب خلاف بين أوكرانيا وروسيا خفضت روسيا إمدادات الغاز لكييف وأضرت بمصالح أوكرانيا الاقتصادية وببعض الدول الأخرى. في رسالة مفادها أن الكرملين لن يتورّع عن استخدام ورقة الغاز الطبيعي لإخضاع الدول العاصية لتوجيهاته.
لكن تلك الورقة لم تستخدمها روسيا حتى الآن، رغم الحصار الاقتصادي المطبق عليها من قِبَل أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية. وأكدت بشكل رسمي أنها ستبقى ضامناً لأمن الطاقة بالعالم ولن تستخدم ورقتي النفط والغاز لتركيع أوروبا المعتمدة بشكل رئيسي على الغاز والنفط الروسيين.
في سياق الحرب الروسية على أوكرانيا والحرب الاقتصادية الغربية على موسكو، بزغ نجم "نورد ستريم 2″، خط الغاز الجاهز للتشغيل والذي سينقل الغاز الطبيعي من روسيا لألمانيا، لكن برلين أعلنت تجميد المشروع.
ولكن ما هو نورد ستريم؟
يتكون المشروع من 4 خطوط أنابيب مقسمة على جزأين: الأول يسمى "نورد ستريم 1″، والثاني يسمى "نورد ستريم 2".
"نورد ستريم 1" هو خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي من مدينة "فيبورغ" في روسيا إلى مدينة "غرايفسفالد" في ألمانيا.
يتألف الخط فعلياً من خطين متوازيين، دخل الأول في الخدمة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2011، أما الثاني فوُضع في الخدمة في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2012 ويبلغ طول الخط 1.222 كيلومتراً وبذلك يكون أطول خط أنابيب تحت البحر في العالم.
"نورد ستريم "2 هو خط أنابيب للغاز في عام 2011 بدأت شركة "نورد ستريم" بتقييم مشروع توسع يتكون من خطين إضافيين يكون بنفس طول الأول سمي باسم "نورد ستريم 2" لمضاعفة السعة السنوية للغاز حتى 110 مليارات متر مكعب.
المعارضة الأمريكية والغزو الروسي للقرم
وعلى الرغم من المعارضة الأمريكية وبعض دول أوروبا لـ"نورد ستريم 2″ فإن الأمور كانت تسير في طريق إنشاء الخط الجديد بشكل إيجابي، فقد تقدمت شركة "نورد ستريم" في أغسطس/آب 2012 بطلب إلى الحكومتين الفنلندية والإستونية لدراسة الطريق في المناطق الاقتصادية تحت الماء للخطين الثالث والرابع وتم النظر في خطة لتوجيه خط أنابيب إضافي إلى المملكة المتحدة الذي تم التخلي عنه فيما بعد.
وبدا أن الأمور على ما يرام حتى عام 2014 عندما قررت روسيا غزو شبه جزيرة القرم وضمها إلى الأراضي الروسية بالقوة، فقد طار الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت باراك أوباما لقارة أوروبا ليقنع الأوروبيين بتنويع مصادر الطاقة بدل من الاعتماد على الغاز الروسي والذي يمثل 40% من الاستهلاك في مجمل أوروبا بما يوازي 180 مليار متر مكعب.
اقترح الرئيس الأمريكي الأسبق بدائل لروسيا كالجزائر وقطر والنرويج وأمريكا نفسها.
ونتيجة لجهود أمريكية حثيثة وعقوبات دولية مفروضة أعلنت شركة "غازبروم" الروسية في يناير/كانون الثاني 2015 أنه تم تعليق مشروع التوسعة؛ لأن الخطوط الحالية كانت تعمل بنصف طاقتها فقط بسبب عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم.
ولكن مع مرور الوقت رأت ألمانيا أن من مصلحتها أن تستمر فى مشروعها مع روسيا، فمنحت ألمانيا في 31 يناير/كانون الثاني 2018 شركة "نورد ستريم 2" تصريحاً للبناء والتشغيل في المياه الألمانية ومناطق اليابسة.
وظلت الولايات المتحدة الأمريكية تحارب استكمال "نورد ستريم 2" بكل الأدوات الدبلوماسية المتاحة حتى إنها تجاوزت الأعراف الدبلوماسية في بعض الأحيان، ففي يناير/كانون الثاني 2019 أرسل السفير الأمريكي في ألمانيا "ريتشارد غرينيل" رسائل إلى الشركات المشاركة في إنشاء "نورد ستريم 2" لحثها على التوقف عن العمل في المشروع وتهديدها بفرض عقوبات عليها في حال لم تستجِب.
واستجابة للضغوط الأمريكية أعلنت شركة "كل البحار" في 21 ديسمبر/كانون الأول 2019 أنها أوقفت أنشطة مد خطوط الأنابيب "نورد ستريم "2 وتوقعت سن قانون تفويض الدفاع الوطني الأمريكي للسنة المالية 2020 الذي يتضمن عقوبات على ذلك الخط.
تضارب المصالح بين الشركاء الأوروبيين
ظل الأمر في حالة من الشد والجذب وظلت الضغوط مستمرة على ألمانيا من قِبَل الإدارة الأمريكية متمثلة فى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خوفاً من زيادة اعتماد القارة الأوروبية على الغاز الروسي ومن تضارب المصالح بين حلفائها. فألمانيا هي المستفيد الأكبر بالحصول على غاز مباشر رخيص، أما أوكرانيا وبولندا ستتأثران سلباً فقد خسروا مليارات من العمولات التي كانوا يأخذونها نظير مرور الغاز الروسي بأراضيهم.
مع صعود بايدن لمقعد رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية واصلت روسيا مد الأنابيب لإكمال خط الأنابيب، حتى أعلن الرئيس الروسي بوتين في يونيو/حزيران 2021 أن مد الأنابيب للخط الأول من "نورد ستريم 2" قد اكتمل وتم ربط مقاطع الأنبوب واكتمل وضع الخط الثاني أيضا في سبتمبر/أيلول 2021.
وقد تغير موقف الولايات المتحدة الأمريكية على يد الإدارة الأمريكية الجديدة من الأمر، ففي يونيو 2021 صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن استكمال مشروع "نورد ستريم 2" أمر لا مفر منه و يجب التعامل مع الأمر بما يضمن مصالح الدول المتضررة.
وفي يوليو/تموز 2021 حثت الولايات المتحدة أوكرانيا على عدم انتقاد الاتفاقية المرتقبة مع ألمانيا بشأن خط الأنابيب الجديد.
في نفس الشهر من عام 2021 توصل الرئيس الأمريكي جو بايدن والمستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" إلى اتفاق نهائي يقضي بأن الولايات المتحدة قد تفرض عقوبات إذا استخدمت روسيا "نورد ستريم 2 كسلاح سياسي وستنشئ ألمانيا صندوقاً بقيمة مليار دولار لتعزيز انتقال أوكرانيا إلى الطاقة الخضراء لتعويض خسارة رسوم نقل الغاز، كما سيتم تمديد عقد نقل الغاز الروسي عبر أوكرانيا حتى عام 2034 إذا وافقت الحكومة الروسية.
وعلى الرغم من ذلك مارست روسيا مزيد من الضغوط حتى إنه في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي في أوروبا بنسبة 17٪ بعد أن علقت هيئة تنظيم الطاقة الألمانية الموافقة على "نورد ستريم 2″، ودعت بولندا متمثلة في رئيس وزرائها صراحة المستشار الألماني أولاف شولتز إلى معارضة بدء تشغيل "نورد ستريم 2" وعدم الاستسلام لضغوط روسيا.
تجميد "نورد ستريم 2" والبدائل المطروحة له
وكانت القاصمة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في نهاية فبراير/شباط 2022 فقد قام المستشار الألماني أولاف شولتز بتجميد عملية الموافقة على فتح الخط في 1 مارس 2022 وأدى ذلك إلى أن تقدمت الشركة المنفذة للمشروع بطلب لإعلان الإفلاس.
لكن لحظة هل ظننت أن الأمر انتهى هنا، انتظر فالإثارة لم تبدأ بعد، التحدي الحقيقي يكمن في السؤال التالي: من أين ستأتي أوروبا بـ 40 % من احتياجاتها من الغاز الطبيعي؟
بالإضافة إلى ذلك تستورد أوروبا من روسيا 30% من احتياجاتها النفطية، هذا غير كميات مهولة من الفحم أيضاً، أضف إلى ذلك أن ألمانيا أغلقت أغلب محطاتها النووية لتوليد الطاقة وبذلك تصبح أوروبا عموما وألمانيا على وجه الخصوص أمام أزمة طاقة رهيبة.
هل يعوض السوق العالمي الفارق المفقود؟
المشكلة الآن أن معظم الدول فى سوق الغاز تصدر بكامل طاقتها وحتى التي لديها طاقات إضافية ليست قادرة على سد تلك الفجوة، هذا غير أن البديل سيكون الغاز المسال مع العلم أن الغاز المسال يحتاج إلى بنية تحتية مخصصة له من مصانع وسفن نقل خاصة لنقله وتخزينه وإسالته بعد وصوله لأوروبا.
حاولت الولايات المتحدة الأمريكية مع بعض الدول الآسيوية مثل اليابان و كوريا الجنوبية أن تتخلى عن جزء من حصصها من الغاز المسال القطري لكن لم تفلح المحاولة.
فهل يُجلس الغاز الروسي الأوروبيين على طاولة المفاوضات لحل أزمتهم أم إن الأزمة ستزداد سوءاً مع طول أمد الحرب؟
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.