لا شك أنه بعد الغزو الروسي لأوكرانيا بات لدى الكثير منّا أسئلة واستفسارات تطفو في أذهاننا. سياسة الولايات المتحدة الأمريكية باتت شبه واضحة للجميع بعد تطبيقها لمنهجيتها المتكررة في إدراج قادة بعض الدول وجرهم إلى مستنقع حرب لا يمكن الخروج منه بسهولة واستحواذها على عدة أوراق لعب يُمكنها رَميها على الطاولة عند الحاجة، وبالتالي كسب الكثير من المكاسب السياسية والاستراتيجية والاقتصادية وفرض هيبتها دولياً واستحواذها على لقب الحاكم الدولي العادل.
إضعاف الهيكلية العسكرية والاقتصادية واستنزاف أي دولة مستهدفة تكون في مرمى الولايات المتحدة الأمريكية -قبل الانقضاض عليها- بات واضحاً، وهذه الطريقة لا يمكن الشك بفاعليتها وصِحتها، لكن بالمقابل أشعلت فكرة واضحة لدى أغلب الزعماء فيما إذا يمكن أن يُعَوَّل على واشنطن والوثوق بها؟ والشاهد الأخير كان عزوف أردوغان عن التعاطي كثيراً مع الغرب بقيادة واشنطن وتودده من موسكو وإنشاء صداقة مصالح تُوّجَت بشراء صفقة إس 400، الأمر الذي أغضبَ أمريكا وجعلها في مرماها اقتصادياً، مع أنَّ تركيا عضو هام في حلف الناتو عسكرياً واستراتيجياً لقربها من الأراضي الروسية.
إذا عدنا إلى غزو العراق للكويت وعمّا إذا كانت السفيرة الأمريكية في العراق وقتئذ (أبريل غلاسبي) قَد أعطت الضوء الأخضر فعلاً لصدام حسين لغزو الكويت أثناء لقائها به قبيل الاجتياح بأيام معدودة، أم إن كلام السفيرة قد فُهم بِشكل مختلف عمَّا قصدته؟
فيما أرسَلت وزارة الخارجية الأمريكية آنذاك تأكيدات في وقت سابق لصدام حسين أن واشنطن ليس لديها التزامات دفاعية أو أمنية خاصة تجاه الكويت، ولكن أصبح ذلك بعد وقوع بغداد في الفخ وبعدما لعبت واشنطن لعبتها المفضلة وإعطاء الذريعة لنفسها لتشكيل ونشر قواعد عسكرية في المنطقة وتدمير عسكري عراقي ويتلوه اقتصادي وزيادة في الميزانية العسكرية العراقية لمواجهة الحشد الدولي المضاد.
تمت إعادة السيناريو مرة أخرى في عهد أوباما في الحرب الأهلية السورية، عندما دَعمت وَوَعدت الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الفصائل السورية المعارضة ورمي ورقتها تحت غطاء حفظ الأمان والسلام في المنطقة لتتمكن بذلك من استهلاك القوة العسكرية السورية وتشكيل قواعد عسكرية في مناطق تمركز النفط.
وتتكرر الفكرة ذاتها مع دعمها للسعودية في حربها ضد الحوثيين في اليمن لزيادة أكثر في نفقاتها الاقتصادية والعسكرية وإبرام صفقات أسلحة جديدة ومتطورة وبالتالي المزيد من دفع الأموال ودعم السعودية وحمايتها سياسياً من الإيرانيين زعماء الحوثيين وذلك مقابل رسوم شبه سنوية كما فعل ترامب في عهده، وبالتالي المزيد والمزيد من الاستنزاف الاقتصادي.
لا يمكن القول أبداً إن المعسكر الغربي تخلَّى عن كييف بعدما قام بالوعود المتكررة للوقوف مع أوكرانيا في حربها ضد الروس، لأن ما ظهر من الغرب هو أنهم يلعبون استراتيجية المواجهة عن بعد واستخدام أوكرانيا كبيدق لعب وساحة معركة، ولم ينسوا تغذية هذه الاستراتيجية معنوياً بإضفاء طابع المقاومة والبطولة ضد الروس واستخدامهم للحزمة الثانية "ثقيلة العيار" من العقوبات الاقتصادية وذلك بعد الحزمة الأولى عند احتلال شبه جزيرة القرم، وبالتالي قطع الإمدادات الاقتصادية التي تؤثر تأثيراً بالغاً على الوضع الاقتصادي الروسي وأيضاً تخفيض ميزانية العملية العسكرية الروسية إلى أقصى حد وذلك بإطالة أمد المواجهة عن طريق مد كييف بالسلاح بسخاء لصالح مقاومة الغزو الروسي.
وهنا تظهر الذريعة المعهودة وتلعب واشنطن ورقة الجوكر لإنشاء قواعد عسكرية للناتو قريبة قدر الإمكان من حدود روسيا.
كان واضحاً من موقف حكومة بايدن الديمقراطية عدم نيتها الانخراط في الحرب الروسية حيث صرح بايدن حرفياً لشبكة إن بي سي: "ليس الأمر وكأننا نتعامل مع منظمة إرهابية، نحن نتعامل مع واحد من أكبر الجيوش في العالم. هذا الوضع صعب للغاية ويمكن أن تسوء الأمور بسرعة جنونية".
تعي حكومة بايدن والاتحاد الأوربي جيداً أنه من الخطر تجربة مخالب الدب الروسي وأن حرب بوتين على أوكرانيا سَتُخِلُّ بِشبه التوازن العسكري بين القطبين لمصلحة الغرب على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية. وفي حال وصلت روسيا إلى حالة شبه العجز الاقتصادي فسوف ينعكس هذا بدوره إيجاباً على أوروبا وواشنطن.
ولمزيد من الضرب على الوتر الاقتصادي والعسكري يلعب الغرب بقيادة واشنطن على تأجيج وتحفيز الجبهات الأخرى من جديد كسوريا وليبيا، حيث إن روسيا قد فرضت كلمتها سابقاً هناك، ولكن بإعادة فتح هذه الجبهات مرة أخرى وفي هذا التوقيت الحرج، ما يؤدي إلى مزيد من التشتت العسكري والاقتصادي وإضعاف الموقف السياسي. وإذا نجح الغرب بذلك يكون قد كسب المعادلة العسكرية والأمنية في أوروبا تمثلاً بأوكرانيا.
إن إعادة هيكلية الحُلم الروسي ببناء مشروعهم القومي الشوفيني والسيطرة على العالم كما كان سابقاً في عهد الاتحاد السوفييتي المنهار سوف يكلف -إذا نجح- الشعب الروسي غالياً. حيث إن الروس لم يستطيعوا حتى الآن إقامة القاعدة الأولى من قواعد بناء الإمبراطورية إضافة إلى تنفيذهم لاستراتيجية تعود للقرن العشرين تنذر بالفشل وذلك لاختلاف عدة معايير حديثة، تماماً كما فشلت محاولة الانقلاب في تركيا عام 2016 بسبب عدم إدراكهم بحداثة المعايير واختلاف الزمن وعصرنة السياسة الحالية.
إن إبرام حرب على جميع الأصعدة مع قطب غربي مسيطر على مفاصل القيادة في العالم لا يمكن أن تتم إلا بإدراك وفهم استراتيجية اللعب السياسي الحديث التي عرابها الولايات المتحدة الأمريكية وبذلك يكون الروس بقيادة بوتين (وفي حال لم تخطئ واشنطن خطأً فادحاً) قد دقَّت الإسفين الأول بنعش اقتصادهم ومشروعهم الشوفيني العظيم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.