على إحدى مجموعات الفيسبوك كتبت سيدة: "أطول مكالمة بيني وبين جوزي دقيقة، حتى في البيت كلامه قليل، إيه السبب يا ترى؟"، وجاءت ردود السيدات في أغلبها بصيغة التهكم: "الله، إنتي تعرفي جوزي؟"، "إنتي مين قالك تتكلمي بلساني؟"، "كلنا هذا الرجل، قصدي هذه المرأة". ويبدو من هذه الردود أن الظاهرة عامة، فما الذي يجعل الرجل أو بالأحرى الزوج صامتاً؟
"الراجل الخفيف مش راجل"
تجذَّرت في المجتمعات العربية عبر سنوات وسنوات ثقافة مفادها أن أحد الفروق بين الرجل والمرأة يكمن في قدرة الرجل على تلخيص أي موضوع، بذكر النقاط المهمة فقط في كلمات قليلة، وميله للصمت في كثير من الأحيان، في مقابل صورة المرأة المغرمة بالتفاصيل، وولعها بنقلها لغيرها، عبر الحكايات التي لا تخلو من اطّراد وتعريج على موضوعات متنوعة. وعلى هذا الأساس يُنظر للرجل الذي يتحدث كثيراً في التفاصيل بأنه "خفيف"، وربما تمادى من لا يعجبه هذا الفعل بسلب هذا الرجل رجولته بقوله "ده مش راجل، ما يرُطّش كده غير الحريم".
فمن لا يرغب من الرجال في أن يُنظَر له كامرأة لا يُفضِّل -بطبيعة الحال- أن يتكلم كثيراً، ويتدرب مع أقرانه وأقاربه الرجال كيف يُجْمِل ولا يُفَصِّل. وعندما يصل هذا المتدرب لمرحلة الزواج يكون قد "احترف" قلة الكلام، خاصة إذا تزوج من لا يحب.
"يا دبلة الخطوبة"
ومع هذا التأصيل أعلاه، تقول بعض السيدات إن هذا لا ينطبق على زوجها، لأنه كان ثرثاراً في مرحلة الخطوبة (أو قبل الزواج بشكل عام)، وقد أصابه الخرَس بعد الزواج. ومردّ هذا -في رأيي المتواضع- أن مرحلة ما قبل الزواج (وخاصة الخطوبة القصيرة) مرحلة تعارف بين الشاب والفتاة، وبها تفاصيل كثيرة، فهي تسأله عن كل شاردة وواردة في حياته قبل الارتباط بها، ولأنه في موقف من "يقدم فروض الولاء والطاعة" حتى يكتمل الزواج، فتراه يحكي عن كل شيء سبق في حياته، وكل ما يخطط له في مستقبله.
هذه السيرة الذاتية التفصيلية لما سبق وما هو متوقع تأخذ حيزاً كبيراً، ويتكلم عنها الشاب -شاء أم أبى- لفترات طويلة، وهو يعرف أن زوجة المستقبل لم تسمع بهذا الكلام من قبل، ناهيك عن مشاكل الخطوبة والقيل والقال، الذي يتطلب من الشاب كمَّاً هائلاً من الدفاع والإقناع والتملص، بل والكذب، وكل هذا "كلام في كلام".
"والله ودخلنا القفص"
يُطلق الكثير من الناس على الزواج اسم "دخول القفص"، في إشارة بليغة تُقارن بين الحرية قبل الزواج بما فيها من خبرات متعددة وبين القفص المغلق الذي تتضاءل فيه الخبرات، حتى تكاد أن تنحصر في شيء واحد اسمه "مسؤولية الإنفاق على البيت ورعاية الأسرة"، مع هروب قصير من القفص لـ"شم النفس" مع الأصدقاء أو ممن يظل منهم صديقاً.
يتماشى هذا مع النضج الذي يستلزم من الزوج قدراً أكبر من الصمت، الذي يتأكد الزوج من أنه -أي الصمت- أعظم النعم، فهو باب التفكر في المشاكل الكبيرة لإيجاد حلول مناسبة لها، وباب الوقار أمام من لا يقدرون معنى الكلام، وعلامة من علامات الهيبة التي تغيب من على وجوه الثرثارين.
أضِف لذلك أن الرجل الذي دخل القفص لم يعُد يعرف شيئاً لا تعرفه عنه زوجته، فلا جديد يتكلم عنه، وإن تكلم بشيء مكرر مَلَّت الزوجة من سماعه، خاصة لو تعلق الأمر بعمله. وأضِف لذلك أن التقدم في العمر لا يُعَلِّم الزوج الصمت فحسب، بل يُعَلِّمه الندم كذلك على ما تكلَّم فيه وهو شاب عن أحلامه وطموحاته التي نادراً ما تتحقق للرجال في بلادنا.
التليفون والمراقبة
منذ أن وصلت الثورة الإلكترونية لجيوبنا ازداد صمت الزوج في بيته، هذا زعم مني لم أجد عليه دليلاً علمياً، إلا أنني أستند في ذلك إلى ملاحظاتي، فالرجل مربوط بمحموله الذي يتيح للزوجة تتبعه أيَّاً كان المكان الذي يذهب إليه، سواء كان بالاتصال أو بإرسال الرسائل والتعليقات على وسائل التواصل، وبذلك لا تُتَاح للزوج فرصة أن يعرف أو يُخْبَر شيئاً جديداً لا تَعْلَمُه زوجته، حتى إذا عاد للبيت لم يجد مادة تنكسر عليها صخرة الصمت بينهما.
الكلام عن المشاكل
وإذا لم يكن أي من الأسباب السابقة ينطبق على زوج بعينه فقد يظل الزوج يختار الصمت على الكلام، والسبب في ذلك هو نوع الكلام. فالكلام في البيوت لا يخرج عن إطار مناقشة المشاكل الزوجية عن عدم مناسبة الراتب لمقتضيات المعيشة، ومشاكل البيت من كهرباء وماء وغاز، ومشاكل "هنتغدى إيه النهاردة؟"، ومشاكل الواجبات المدرسية والدروس الخصوصية وشراء ما يطلبه المدرسون وما تتطلبه المدرسة، ومشاكل النقل من شقة لشقة، أو تجهيز فرش جديد، أو مشاكل اختيار عروس للولد، أو قبول عريس متقدم للبنت، وما يتلو ذلك من مشاكل فرعية، إلخ. كل هذه المشاكل لا تفتح شهية الرجل للكلام عنها بقدر ما تفتح شهيته للصمت حتى يفكر في حلول لها.
تغاضيت في كل ما تقدم عن ذكر أية مشاكل شخصية للزوج في عمله أو المواصلات أو مع أحد من أهله ممن هو مسؤول عنهم، وكلها مشاكل لا تخص بيته أو زوجته؛ ولذا لا يحب أغلب الأزواج إقحام هذه المشاكل في حياتهم الشخصية داخل البيوت، ولسان حالهم يقول "هو البيت ناقص مشاكل؟"، وهو سبب آخر لانشغال عقل الزوج وتفضيله الصمت على الكلام.
"إيه العمل؟"
الخلاصة أن نمط حياتنا وثقافتنا لا يتيحان للرجل أن يتكلم كثيراً، ومع هذا لا أُبَرِّئ الرجلَ بالكلية من آفة صمته القاتل، فليحاول الأزواج أن يصطحبوا زوجاتهم لأماكن جديدة قد تتيح لهم رؤية شيء جديد يمكن الكلام عنه، ثم لتحاول الزوجات ترك زمام أمور أزواجهن بعض الشيء خارج البيت، دون اتصالات، لفترة تسمح للزوج بأن يرى شيئاً يمكنه الكلام عنه عندما يعود للبيت، وليحاول كل منهم معرفة شيء ولو يسيراً عن الموضوعات التي يحب شريك العمر الكلام عنها، كل هذا يمكن أن يكسر الخرَس الزوجي ولو بعض الشيء.
وأخيراً، أنوه إلى أنني افترضت في كلامي هذا العشرة الطيبة بين الأزواج، التي -إن غابت- لم يعد للكلام معنى، بل سيسعى كل طرف لإسكات من يبدأ به.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.