سعت القاهرة خلال الفترة الماضية للحصول على قرض جديد من الصندوق، في وقتٍ يستمر فيه مؤشر مديري المشتريات في الانخفاض، ما يعني أن مصر لا تنتظر مستقبلاً استثمارياً مستقراً، فمقارنةً بمعظم الاقتصادات الناشئة، يدخل الاقتصاد المصري عاماً قد يكون الأصعب مقارنةً بالسنوات الأخيرة.
ويأتي ذلك بعدما حلت مصر في المرتبة الثانية عام 2019 كأكثر الدول اقتراضاً من صندوق النقد الدولي بقيمة 11.8 مليار دولار، وهو ما يمثل 11.4% من إجمالي الديون المقدمة من الصندوق والتي تبلغ قيمتها 102.8 مليار دولار.
منذ وصول السيسي للحكم ترددت أنباء بين فترة وأخرى عن اللجوء إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي، قبل أن يُسارع المسؤولون إلى نفيها، غير أن الحكومة المصرية شرعت منتصف عام 2016 في التفاوض مع صندوق النقد على قرض بقيمة 12 مليار دولار عبر آلية تسهيل الصندوق الممدد، وبالفعل تسلَّمت مصر في نفس العام الشريحة الأولى من القرض.
وفي ظل أزمة كورونا حصلت مصر في 2020 على قرض آخر بقيمة 7.9 مليار دولار صُرف منه 2.8 مليار مباشرةً بموجب "أداة التمويل السريع،" واستند المبلغ المتبقي إلى آلية الاستعداد الائتماني، ليصرف على مدار 12 شهراً عبر 3 شرائح، كان آخرها شريحة بقيمة 1.6 مليار دولار، صُرفت في يونيو/حزيران الماضي.
والفرق بين آلية (تسهيل الصندوق الممدد) و(آلية الاستعداد الائتماني)، يكمن في أن الأولى تمتاز بارتفاع حجم القرض وطول مدة السداد، والتي قد تصل إلى عشر سنوات، كما أنها لا ترتبط بمشاريع محددة وإنما تدخل إلى الموازنة. في حين أن الثانية تدخل في حكم القروض قصيرة الأجل بحيث لا تتجاوز مدة السداد المتاحة له خمس سنوات.
ويعتمد نظام السيسي على الاقتراض لسد عجز الموازنة وتمويل المشاريع التي ينفذها، وهو ما أدى إلى ارتفاع الدين الخارجي، فخلال السنوات التي تلت تطبيق سياسات صندوق النقد، ارتفعت الديون الخارجية لمصر بنسب مبالغ فيها، حيث بلغت في نهاية عام 2016 نحو 69 مليار دولار، لتسجل خلال الربع الأول من العام المالي 2021 /2022 (137.420) مليار دولار.
كيف مهَّدَ السيسي لقرض صندوق النقد؟
ارتكزت أجندة صندوق النقد في مصر على ثلاثة محاور أساسية: نقدية ومالية وهيكلية، تهدف إلى خلق "انتعاش" للاقتصاد على المستوى الكلي "الحكومي"، في المقابل تثقل كاهل المواطن ولا تعالج الأزمات التي يعيشها من ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، بل تنصّ على فرض نمط اقتصادي "نيو ليبرالي صارم"، تقطع من خلاله إعانات الدولة للمواطنين وتضرب حاجاتهم الأساسية.
واشترط الصندوق على مصر العديد من الإجراءات مثل: (تحرير سعر الصرف- رفع أسعار الوقود- تبني النظام الضريبي على القيمة المضافة- زيادة الإنفاق الاجتماعي) وإجراءات أخرى تمثلت في خفض نسبة التضخم، وخفض دعم الطاقة إلى 1.75% من الناتج المحلي الإجمالي.
وكان على مصر أوّلاً أن تحصل على تمويل خارجي بقيمة 6 مليارات دولار كشرطٍ مسبق لنيل الموافقة من صندوق النقد. وقد استطاعت جمع هذا المبلغ بفضل دعم مادّي من دولتي الإمارات والسعودية بالإضافة إلى الصين.
تحرير سعر الصرف
شملت النقاط الأساسية في البرنامج الذي قدمه الصندوق عام 2016 الانتقال إلى سياسة سعر صرف مرنة (يحدّد فيها السوق قيمة سعر الصرف)، جاء ذلك في الوقت الذي شهدت فيه مصر انخفاضاً حاداً في العملات الأجنبية مع تراجع إيرادات النقد الأجنبي من مصادرها المعتادة مثل السياحة وقناة السويس، وهو ما أثرَ بدوره على الاقتصاد، مع استعادة السوق السوداء نشاطها بعد عقود من الخمول النسبي.
وسجَّلَ الدولار 18 جنيهاً في السوق السوداء مقابل 8.88 جنيه في البنوك في الأيام القليلة التي سبقت "تعويم الجنية". هذا الفارق الكبير في سعر الدولار أدى إلى لجوء الأشخاص والشركات الذين يملكون عملات صعبة إلى السوق السوداء، وهو ما انعكس بدوره على تراجع حركة الاستيراد من قبل الشركات المصرية.
انخفاض قيمة العملة في تلك الفترة أدى إلى ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، بما فيها السكّر والزيت، كما أن تطبيق سياسات الصندوق من خلال تخفيض نفقات الحكومة، نتج عنه ارتفاع أسعار الوقود في يونيو/حزيران 2017 بنسبة 50%. وهو ما فاقم من الأعباء الملقاة على كاهل المصريين، فالكثير منهم مثلاً يعانون ليتأقلموا مع هذا الارتفاع الكبير في أسعار الوقود في وقتٍ ارتفعت فيه كلفة المعيشة كثيراً بسبب انخفاض قيمة العملة.
رفع الدعم عن الوقود
تزامناً مع تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي أظهرت بيانات وزارة المالية أن دعم السلع البترولية انخفض بنحو 84.8% خلال آخر 5 سنوات، حيث خصصت الحكومة نحو 18.4 مليار جنيه لهذا البند في موازنة العام الحالي 2021-2022 مقابل 120.8 مليار جنيه في عام 2017-2018.
وفي العام 2019 أعلنت الحكومة تحرير أسعار عدد من المنتجات البترولية وبدء تطبيق آلية التسعير التلقائي عليها بحيث تتم مراجعة أسعارها كل 3 أشهر، من خلال لجنة مشكلة بقرار من رئيس الوزراء وبناءً على تطورات الأسعار العالمية للبترول وسعر صرف الجنيه مقابل الدولار.
وخلال العام الماضي، رفعت الحكومة أسعار البنزين 3 مرات بقيمة 25 قرشاً للتر في كل مرة خلال أشهر أبريل/نيسان، ويوليو/تموز، وأكتوبر/تشرين الأول، فيما شهد الشهر الجاري زيادة في أسعار البنزين بكافة أنواعه 25 قرشاً، في مقابل تثبيت أسعار السولار.
هل بالفعل نجحت تجربة صندوق النقد في مصر؟
تُقدم المؤسسات الرسمية المصرية رواية لا تخلو من الحديث عن تحسن مؤشرات الاقتصاد، وتراجع معدل التضخم من 30% عام 2017 إلى أقل من 4% 2020 وذلك على الرغم من تبعات جائحة كورونا، غير أن هذه الرواية لا تمثل الواقع، فمع تقليص الدعم الحكومي لعدد من السلع الأساسية وارتفاع الأسعار فإن نسبة كبيرة من أبناء الطبقة المتوسطة أصبحت تحت خط الفقر، وبحسب آخر التقديرات تبلغ الطبقة الوسطى في مصر نحو 34.3%، في وقتٍ بلغت فيه معدلات الفقر في مصر 29.7% بحسب ما ذكره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
التضليل الذي مارسته الحكومة في حديثها عن انخفاض معدلات الفقر في عام 2020 لأول مرة منذ 20 عاماً أن فترة جمع البيانات ليست 2020 بل 2019، والفارق كبير بين السنتين، لأن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للسكان قد تدهور بشكل أساسي بسبب بداية جائحة كورونا.
وتعتمد رواية المؤسسات الرسمية المصرية، على الاقتصاد الكلي المبني على القروض وعلى الحسابات التراكمية، وتتجاهل الاقتصاد الجزئي الذي يرتبط مباشرة بحياة المواطنين. في الوقت الذي يعتمد فيه النظام في دعم تطبيق سياسات صندوق النقد من خفض الدعم الحكومي وزيادة الرسوم والضرائب، على القبضة الأمنية التي يطوق بها المجتمع، حيث عمل على إسكات أصوات المعارضة عبر سجنها، حيث تزامن بدء تطبيق سياسات الصندوق مع غلق عشرات المواقع الإعلامية.
لماذا قد يلجأ "السيسي" لصندوق النقد مرة أخرى؟
لجوء مصر للاقتراض مرة أخرى من صندوق النقد يأتي في ظل تأثر عائدات العملة الصعبة في مصر سواء من السياحة جراء الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا، وتراجع صافي الأصول الأجنبية حيث وصلَ منتصف العام 2021 إلى سالب 7.1 مليار دولار، وهو ما يعني أن التزامات البنوك بالنقد الأجنبي تفوق ما تملكه منه، ويمثل هذا التراجع ضغطاً على الجنيه المصري، لأنه يخلق طلباً على الدولار في مقابل الجنيه، وكل يأتي لدعم الموازنة العامة وميزان المدفوعات لتمويل استيراد السلع الأساسية والآثار السلبية للانخفاض المتوقع للموارد الدولارية.
فيما يمثل تطبيق مصر للإصلاحات التي فرضها صندوق النقد خلال السنوات الماضية، والحديث عن سعي مصر للحصول على قرض جديد، أعباءً إضافية على المواطن، وتعمل مصر على الحصول على ديون جديدة لسداد ديون قديمة، ما يعني إنهاك الدولة على المدى البعيد وإلزام الأجيال القادمة بسداد قروض لا قبل لهم بها، كما أن ارتفاع التضخم وزيادة الضرائب قد يثيران امتعاض شرائح كبيرة من الشعب.
ويُفترض أن تسدد مصر من أقساط وفوائد ديون قصيرة وطويلة الأجل خلال السنة المالية التي تنتهي آخر يونيو/حزيران 2022، قرابة 36 مليار دولار، وهو ما يجعل اللجوء إلى صندوق النقد خياراً مطروحاً. كما أن التصريحات المتكررة على لسان المسؤولين المصريين عن تقليص عدد مستحقي الخبز المدعم إلى أقل من مليون شخص، مقارنة بنحو ستة ملايين شخص يحصلون عليه حالياً، وذلك بغرض تقليل الضغط المالي على الموازنة العامة للدولة، قد يكون تمهيداً للسياسات التي قد يفرضها الصندوق على مصر حال وافق على القرض.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.