في مكتبه الكبير، يجلس أقصر القياصرة الروس، فلاديمير بوتين، مع مستشاريه ورجالات نظامه القوي، لمناقشة تطورات الصراع المفتعل مع الجارة الصغيرة أوكرانيا، وإن شئت الدقة يجلس معهم ليخبرهم بقراره النهائي، بعدما قرر إعلان الحرب على زيلينسكي ورفاقه، حتى يعيش الرئيس الأوكراني الواقع المر للصراعات الدولية بعيداً عن السينما والمسرح، بعد إعلان بوتين بداية الحرب على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022.
تعلو الدهشة وجوه سكان العالم، وترتبك أمريكا وحلفها الناتو، ويصارع زيلينسكي قيصر موسكو شبه وحيد، تتوالى الضربات العسكرية على العاصمة كييف وخاركيف ولفيف، فترتفع أسعار السلع كافة في فيصل وشبرا وحلوان، فيسأل المصريون "الله وأنا مالي يا لمبي؟"، تتواصل الحرب فيصبح كيلو الدجاج في القاهرة بـ40 جنيهاً، فيسخر أحد سكان المطرية: "هما ضربوا عشش الفراخ في أوكرانيا ولا إيه"؟
علاقة مصر بحرب روسيا على أوكرانيا
في ظل عالم تحكمه المصالح المعقدة، وكأنه رقعة شطرنج، كلما تحركت قطعة واحدة أثرت على الرقعة بأثرها، وربما رفرفة فراشة بجناحيها في أقصى الشرق تتسبب في إعصار هائل بأدنى الغرب، ولكن ليست بنفس درجة التأثير من دولة إلى أخرى، ففي حالة مصر، أصبح حجم التأثر السلبي من الحرب ربما أكبر من دول مجاورة لروسيا وأوكرانيا، فكيف يحدث هذا في جمهورية السيسي الجديدة؟
في العام 2019 استوردت مصر وحدها 10.6% من إجمالي صادرات القمح العالمية، بقيمة مالية تجاوزت 4.67 مليار دولار، حيث تعد مصر أكبر مستوردة للقمح في العالم، بحجم استهلاك سنوي يصل لـ18 مليون طن، وفي 2021 أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بلوغ كمية واردات مصر من القمح 6.1 مليون طن بإجمالي نحو 2.4 مليار دولار، مقابل 11.8 مليون بقيمة 2.9 مليار دولار خلال نفس الفترة من عام 2020.
ولأن مصر مثل المصريين، قليلة البخت "تلاقي العظم في الكرشة"، فطرفا الحرب الدائرة، هما أكبر الدول الموردة للقمح لمصر، حيث تتصدر روسيا قائمة أعلى 10 دول استوردت مصر منها القمح خلال الـ11 شهراً الأولى من عام 2021، بإجمالي قيمة واردات بلغت 1.2 مليار دولار، وبكمية بلغت 4.2 مليون طن بنسبة 69.4% من إجمالي كمية واردات المحروسة من القمح، ولكن "بخت" مصر لم يكتفِ بذلك، فتأتي أوكرانيا ثانية بعد روسيا في قائمة الدول الموردة المسؤولة عن خبز المصريين، بقيمة 649.4 مليون دولار، وبكمية 651.4 ألف طن بنسبة 10.7%.
قواعد الاستيراد الجديدة وتأثيرها على المصريين
استبق نظام السيسي، التأثيرات المحتملة من الحرب الروسية على أوكرانيا، قبل اندلاعها بأيام قليلة، مقرراً قواعد جديدة للاستيراد عبر البنك المركزي المصري، ضمن إطار توجيهات مجلس الوزراء بشأن حوْكَمة عمليات الاستيراد، حيث قرر وقف التعامل بما يعرف بمستندات التحصيل في دفع قيمة السلع المستوردة، واستبدالها بالاعتمادات المستندية فقط، اعتباراً من أول مارس/آذار الجاري، مما وضع المستوردين في أزمة كبيرة، حيث أصبح يتطلب منهم إيداع قيمة الشحنات كاملة قبل شحنها ووصولها، في عملية قد تستغرق بضعة أشهر، ما يزيد من أعبائهم ويتسبب في تجميد أموالهم مؤقتاً. مما يؤثر بصورة بالغة على ارتفاع الأسعار لتعويض كل هذه الخسائر المتراكمة.
حينها توقع رئيس الغرفة التجارية بمحافظة كفر الشيخ، ارتفاع أسعار السلع بنسب تتراوح بين 15% و20% على أقل تقدير، إضافة لارتباك عملية الاستيراد من الخارج، بينما عراب اقتصاد الجمهورية الجديدة محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر أكد أنه لا رجعة عن القرار المتعلق بقواعد تنظيم الاستيراد الذي تم الإعلان عنه ولن يتم إجراء أية تعديلات عليها.
قرارات السيسي الاقتصادية.. "ينعى ولده ويصلح ساعات"
دائماً ما يبحث السيسي ونظامه عن مصالحه الخاصة التي تحقق له أكبر مكسب، بعيداً عن تأثير ذلك على حياة المصريين، ففي حين أجمع الخبراء على التأثيرات السلبية لقرار البنك المركزي، على الشركات المصرية المتوسطة، خاصة مع استثناء البنك المركزي فروع الشركات الأجنبية والشركات والكيانات التابعة لها من الالتزام بحزمة القواعد الجديدة، كما ستؤثر تلك القواعد على ارتفاع الأسعار المبالغ فيه للسلع الغذائية والأساسية للشعب المصري، بينما الحكومة ترى أن الآلية الجديدة تهدف للحفاظ على الموارد المالية للدولة، وتعتبرها خطوة مكملة لمنظومة التسجيل المسبق للشحنات، التي تسعى من خلالها للارتقاء بمستوى البضائع الواردة من الخارج، والقضاء على هوامش الربح المبالغ فيها.
عن قرار البنك المركزي قال عمرو أديب إعلامي السيسي المقرب إن "أي زيادات، مبتبقاش على حد، هي على المواطن فقط، آثار هذا القرار هي مقياسي لهذا الأمر"، ثم يعود بعدما وقعت الفأس على كل الرؤوس ليخبرك بالحل السحري لكل مشاكلك: "ده مش وقت بيض أورجانيك، ماله البيض العادي، كله بالبسطرمة بيبقى حلو، مش لازم تشتري المنتج الغالي ما دام الأرخص منه نفس الجودة"، ثم يقدم وصفة فعالة لكل ست بيت مصرية: "لماذا لا نخبز في المنزل كما كنا نفعل قبل 100 سنة؟ في ناس في أمريكا بدأت تعمل العيش في البيت".
يا سيادة المقاول.. ليس بالكباري وحدها تحيا الأمم
من المنطقي أن تتأثر دول كثيرة من الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، ولكن الدول التي تحترم مواطنيها، والحكام الذين يخشون شعوبهم المحكومة، يهتمون بتقليل حدة التأثيرات السلبية من أي أحداث عالمية كبرى، على غرار تفشي وباء كورونا، فتحاول تلك الدول الاعتماد- بداهةً- على نفسها، قدر الإمكان بدلاً من الاعتماد على الاستيراد، خاصة في الملفات الحيوية، أو كما قال الرئيس الراحل د. محمد مرسي: "إذا أردنا أن نمتلك إرادتنا، فعلينا أن ننتج غذاءنا ودواءنا وسلاحنا". وليس ذلك بالأمر الهين بالتأكيد، لكن المعضلة هي في وجود الإرادة بداية، وليس البحث عن المصالح وتمكين رجال الأعمال التابعين للنظام من قوت المصريين. إضافة لما قدرته صحف أجنبية بأن الجيش المصري يُسيطر على أكثر من 50% من اقتصاد البلاد. فهل يفسر ذلك حالة الفشل المستمرة في بناء اقتصاد قوي؟
الجمهورية الجديدة برعاية السيسي لا تنتج سوى الخوف في قلوب المصريين ولا تزرع سوى اليأس في البحث عن حلول لنهضة مصر، ولا يبني السيسي سوى السجون والكباري، وكأنه لا يعرف سواهما، فمنذ استيلائه رسمياً على كرسي الرئاسة في يونيو/حزيران 2014، وحتى نهاية 2020 أنشأ نظامه أكثر من 600 كوبري ونحو 21 محوراً جديدة بتكلفة أكثر من 85 مليار جنيه، بينما مات المصريون في ذروة تفشي وباء كورونا أمام المستشفيات نظراً لامتلاء الطاقة الاستيعابية للمستشفيات سيئة الجودة.
يجب على السيسي ومن وراءه أن يعلموا خطورة ارتفاع الأسعار وضيق المعيشة الذي يعاني منه المصريون عامة وخاصة الكتلة الصلبة غير المؤدلجة، لأنها عندما يضيق بها الحال، ربما لا تملك ما تخسره، فتتحرك في أي اتجاه، وكل حركة حتى وإن كانت صغيرة تؤثر في كل نظام قمعي هش، وإن تصور غيره ذلك.
"شوف يا إله العجوة يا فرحان قوي بْاسْمَكْ وِشَكْلَكْ
يا حُمَار النَّاسْ دِي لَوْ جاعت ها تاْكْلَكْ".
تميم البرغوثي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.