يمثل الأدب العربي (تحديداً الشعر)، لي، وربما للكثيرين، دوحة ظليلة أهرب إليها كلما عافت نفسي السياسة وكآبتها، ونفاق الحكام، ومنظر الحروب، والدماء. القصيدة التي سأهرب إليها (إن صح هذا التعبير) هي للمجنون قيس بن ذريح، وهي من عيون الشعر العربي، التي بكى فيها لُبنَاه أمرَّ البكاء، غير أننا في الحقيقة لسنا بناجين من الكآبة التي هربنا منها، لأن قيساً يذكرها في أبياته:
ماتت لُبيني فموتها موتي ** هل تنفعن حسرة على الفوت
وسوف أبكي بكاء مكتئب ** قضى حياة وَجدا على ميت
المجنون هو قيس بن ذريح بن الحباب، وأمه بنت سنة بن الذاهل بن عامر الخزاعي، ولبنى هي لبنى بنت الحباب الكعبية. يقول رواة الأخبار إن قيس ذهب إلى خيام بني كعب بن خزاعة لحاجة له، وكان من الأقدار أن يقف على خيمة لبنى بنت الحباب، فاستسقى الماء منها، ويا لها من لُبنى، كانت طويلة القامة، شهلاء العيون، حلوة المنظر والمنطق.
وكان من أخلاقها الكريمة أن رحبت به وقالت له: أتنزل فتتبرد عندنا؟ قال: نعم. فنزل بهم. وجاء أبوها فنحر له وأكرمه. وقعت لبنى في نفسه وعزم الزواج منها، فانصرف إلى أبيه وأعلمه حاله وسأله أن يزوجه إياها، إلا أن أباه ذريحاً رفض ذلك الزواج، ثم إنه أتى أمه فشكا ذلك إليها واستعان بها على أبيه، فلم يجد منها مطاوعة ونصرة.
وإذا علمنا من الرواة بشأن هذه القصة التي بدأت بالرفض وعدم قبول لبنى بنت الحباب زوجاً مصوناً لقيس، أن الحسين بن على رضي الله عنهما، وابن أبي عتيق تدخلا وتوسطا لإكمال هذا الزواج، وأن أبا لبنى قال: يابن رسول الله، ما كنا لنعصي لك أمراً وما بنا عن الفتى رغبة، وأن أبا قيس قال للحسين رضي الله عنه: "السمع والطاعة لأمرك"، فلنا أن نتخيل ونتصور أي سعادة وهناء كبيرين حازهما قيس بن ذريح!
فتزوجا، وأقامت لبنى معه مدة، وطابت لهما الحياة، لا ينكر أحد من صاحبه شيئاً، لكن لم تدم لهما السعادة طويلاً، فقد مرض قيس مرضاً شديداً، ولما برأ من علته قال له أبوه ذريح: يا قيس إنك اعتللت هذه العلة فخفت عليك، ولا ولد لك ولا لي سواك. وهذه المرأة ليست بولود، فتزوج إحدى بنات عمك، لعل الله أن يهب لك ولداً تقر به عينك وأعيننا.
فقال قيس: لست متزوجاً غيرها أبداً، فقال له أبوه: فإن في مالي سعة فتسرّ بالإماء. قال: ولا أسوءها بشيء أبداً والله.
قال أبوه: فإني أقسم عليك إلا طلقتها، فأبى وقال: الموت والله عليّ أسهل من ذلك.
واقترح قيس لوالده أمام هذه المصيبة التي أحاطت به ولم يتوقعها أبداً، والتي تعني إن هو أطاع أباه فقد دمر سعادته بيديه، ثلاثة حلول قال: تتزوج أنت فلعل الله أن يرزقك ولداً غيري. قال: فما في فضلة لذلك. قال: فدعني أرتحل عنك بأهلي وأصنع ما كنت صانعاً لو مت في علتي هذه. قال: ولا هذه. قال: فأدع لبنى عندك وأرتحل عنك فلعلي أسلوها، فإني ما أحب بعد أن تكون نفسي طيبة أنها في خيالي قال: لا أرضى.
وكان النزاع على أشده بين قيس وأبيه، حتى روى الرواة أن ذريح من عزمه وإصراره على رأيه وقراره (مع أن العقلاء أو الحكماء أو أياً مَن تُطرح أمامه هذه القضية، فإنه لا يسعى إلى هدم البيوت وخرابها بمثل ما سعى ذريح، وأن يقضي على قلبين تعلقا ببعضهما تعلقاً شديداً) كان يقف في حر الشمس ويذهب إليه قيس ليظلله بيديه، وهذا من واجبه وبره وإحسانه، ويدخل إلى لبنى فيعانقها وتعانقه ويبكي وتبكي معه، وهذا أيضاً من حسن معاملته وواجبه.
فكان عليه أن يعامل ويرضي جميع أهله وأحبابه، وإن كلّفه ذلك الجهد والطاقة، وإن كلفه الضغط على مشاعره التي تفرض عليه متناقضات عديدة في وقت واحد. كانت لبنى تقول له: يا قيس لا تُطع أباك فتهلك وتهلكني، فيقول: ما كنت لأطيع أحداً فيك أبداً، ويقال إن قيساً أقام على ذلك أربعين يوماً، ثم طلقها ولحقه الجنون.
يقول قيس بن ذريح:
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ** فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني** لفارقتها من حبها وقضيت
برت نبلها للصيد لبنى وريشت** وريشتُ أخرى مثلها وبريت
فلما رمتني أقصدتني بسهمها** وأخطأتها بالسهم حين رميت
وفارقت لبنى ضلة فكأنني** قرنت إلى العيوق ثم هويت
فيا ليت أني مت قبل فراقها** وهل تُرجعن فوت القضية ليت
فصرت وشيخي كالذي عثرت به** غداة الوغى بين العداة كميت
فقامت ولم تضرر هناك سوية ** وفارسها تحت السنابك ميت
فإن يك تهيامي بلبني غواية ** فقد يا ذريح بن الحباب غويت
فلا أنت ما أملت في رأيته** ولا أنا لبنى والحياة حويت
فوطن لهلكي منك نفساً فإنني** كأنك بي قد يا ذريح قضيت
والقصة على كمّ الألم والحسرة التي بها، والتي كانت نهايتها أن فقد قيس الحياة بفقده لبنى، وفقد الدنيا بفقده عقله، تركت لنا أبياتاً مملوءة صدقاً لا كذب فيها مثل سائر الشعر، وجعلتنا معها نحس الكآبة ونشاهد هذه النهاية الموجعة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.