تبدو إسرائيل محرجة اليوم في مواجهة مترتبات علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. في ساعة الامتحان الأوكراني "يُكرم المرءُ أو يُهان". ثلاثة باحثين إسرائيليين في معهد دراسات الأمن القومي هم: ألداد شافيط، وأودي ديكل، وعينات كورتس يقرأون تداعيات الحرب الأوكرانيةـ الروسية على إسرائيل والمنطقة يقولون معاً إنه كلما طالت الأزمة (الروسية-الأوكرانية) وتعقدت، وخصوصاً إذا استمرت وقتاً، من المتوقع أن يطلب الرئيس جو بايدن والإدارة الأمريكية، المهتمة بترسيخ وتأكيد المكانة الرائدة للولايات المتحدة في النظام الدولي، اختيارَ طرف بصورة علنية والدعم الصارم للخطوات الأمريكية، والمشاركة في الضغوط التي ستُمارَس على روسيا، والانصياع لمجمل العقوبات المفروضة عليها.
في مثل هذه الظروف، من الصعب جداً أن تكون الإدارة الأمريكية مستعدة للإصغاء، وأن تتفهم محاولات إسرائيل التوضيح والادعاء أن المصالح الإسرائيلية تفرض عليها المحافظة على قنوات مفتوحة مع موسكو.
ومن المعقول أنه إزاء تحفُّظ دول الشرق الأوسط عن إظهار تعاطفها الكامل مع موقف الولايات المتحدة وخطواتها، أن تقوم الإدارة الأمريكية، لاحقاً، بتصفية حسابها مع الدول التي ستحاول الوقوف موقف المتفرج.
بالمقابل ووفقاً لمتابعين، فإن العالم بعد أوكرانيا سيكون مختلفاً عمّا قبلها. ولا يمكن مقارنة اجتياح أوكرانيا باجتياح جورجيا جزئيّاً لضمان انفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008، ولا بضمّ شبه جزيرة القرم واقتطاعها من كييف عام 2014. بل هو أشبه بإخضاع جمهورية الشيشان عام 2000، وهو أوّل إنجاز لبوتين في العام نفسه الذي تسلّم فيه السلطة من الرئيس السابق بوريس يلتسين الموسوم بالضعف والتخاذل أمام التغوّل الأمريكي.
لماذا اختار بوتين هذا التوقيت؟
التوقيت الذي اختاره بوتين مرتبط بجملة من الظروف التي يعيشها خصومه في الساحة الدولية، ابتداءً من الواقع الداخلي المتراجع للرئيس الأمريكي جو بايدن على أبواب الانتخابات النصفية، مروراً بالتحضيرات الجارية لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران ودول الغرب، وليس انتهاءً بالهواجس الأمريكية-الغربية لمواجهة تمدد العملاق الصيني في السوق الدولية.
والحقيقة المرة أن أزمة أوكرانيا مع روسيا ستكون وبالاً على بايدن في الداخل الأمريكي في ظل الحماوة التي يشهدها خطاب الحزب الجمهوري والذين يستنفرون كل طاقتهم وحضورهم لتحقيق هزيمة كبيرة لمنافسهم الديمقراطي وانتزاع الغالبية في مجلسي النواب والشيوخ بعد نحو ثمانية أشهر، ويركزون حملتهم الداخلية على ضعف القرار الأمريكي في ظل رئاسة بايدن ابتداءً من أفغانستان والانسحاب المذل، وصولاً لتمدد إيران وفرض شروطها على المجتمع الدولي، وليس انتهاءً بأزمة أوكرانيا المشتعلة.
بالمقابل، فإن خبراء في مركز كارنيغي للدراسات والذين أعدوا دراسات حول أداء الديمقراطيين في المنطقة منذ توليهم زمام السلطة يقولون إن إدارة بايدن تبنت مقاربة تكتيكية لم تتوافق مع هدفها الأساسي الرامي إلى تحقيق الاستقرار. بيد أن محاولات إرساء التوازن بين القيَم والمصالح الاستراتيجية أفضت إلى نهج قائم على سياسات جزئية وغير متكاملة يُعالج كل أولوية أساسية بمعزل عن الأهداف الأخرى، سواء في ملف المفاوضات النووية مع إيران، أو مكافحة خطر الإرهاب الذي قد يُهدّد الأراضي الأمريكية، أو حماية التجارة والمجاري المائية الدولية، أو دعم سياسة التهدئة في الشرق الأوسط. وقد تسببت الخطوات الرامية إلى تحقيق هذه الأهداف، بإحداث ديناميكيات غالباً ما تُقوّض الغايات المُعلَنة لواشنطن.
والسبب هو أن التحديات الإقليمية التي تواجهها الولايات المتحدة مترابطة بشكل وثيق، في حين أن سياساتها ليست كذلك بالضرورة. لذا، قد تتسبّب الخطوات لتحقيق أحد هذه الأهداف، بانعكاسات كبيرة ومتناقضة على أهداف أخرى.
على سبيل المثال، يُعدّ التوصل إلى اتفاق نووي لاحتواء خيارات إيران النووية في حد ذاته هدفاً يستحق العناء، ولكنه، إذا طُبِّق بمعزل عن القضايا الأخرى، فقد يتسبّب بزعزعة إضافية لاستقرار المنطقة. والسبب هو أن ما سينتج عن الاتفاق من تخفيفٍ للعقوبات سيؤدّي على الأرجح إلى تمويل إضافي للميليشيات الموالية لإيران في مختلف أنحاء المنطقة، ما سيفضي مع الوقت إلى فشل مؤسسات الدولة في بعض البلدان، وإلى تقويض الحركة التجارية وأي أمل بخفض التوترات في أماكن أخرى.
لذا ومن الواضح أن أزمة أوكرانيا ستضع الإدارة الأمريكية في موقع تفاوضي متراجع، ولهذا ربما اختار بوتين هذا التوقيت بالذات، وأزمات إدارة بايدن لا تقف هنا فقط، فإسرائيل أبدت قلقها من أن تؤثر أزمة أوكرانيا على المعادلة الحربية التي كانت قد رسَمتها روسيا في سوريا وسمحت بفتح الأجواء أمام الغارات الإسرائيلية الدائمة.
ولتثبيت هذا الواقع قامت موسكو بربط أزمة أوكرانيا مع حضورها العسكري في سوريا، لذلك باشَر الجيش الروسي بتعديل قواعد اللعبة في سوريا. وقبيل غزو أوكرانيا جرى الإعلان عن طلعات جوية روسية وسورية في الأجواء الجنوبية. الإشارة كانت تمهيدية وأُتبِعَت في الأيام الماضية بالتشويش على الأجهزة الإلكترونية والتي تعرقل تحليق الطائرات الإسرائيلية، إضافةً إلى تنفيذ تدريبات القوات المحمولة جواً في الجولان.
ما يعني وفقاً للمحلل جوني منير أن أزمة أوكرانيا ستنفجر في سوريا وتطول شظاياها الشرق الأوسط. وخلال المرحلة الأخيرة عملت إسرائيل ومن خلال "اتفاقية أبراهام" (اتفاق التطبيع) على بناء تحالف استراتيجي مع دول الخليج سيسمح بنقل إسرائيل من قوة إقليمية لها حسابها، إلى قوة إقليمية عظمى.
ودول الخليج تتمتع بموارد مالية هائلة وموقع جغرافي مميز وقريب من إيران، والهدف الفعلي لهذا التحالف، وعلى الرغم من أن الرياض لا تزال رسمياً خارج هذا التحالف ولم تربط نفسها باتفاقيات التطبيع، فإنها قد لا تتأخر كثيراً وهي التي تقف على خلاف سياسي، والأهم عقائدي وديني، مع السلطة الدينية الإيرانية.
وعند الجهة الغربية لإسرائيل، أي عند الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، هنالك ثروة الغاز وخط نقله إلى أوروبا حيث لإسرائيل حضور أساسي فيه. لكن خط الغاز المقترح إنشاؤه يصطدم بعقبات أساسية، فهو يتكوّن من أنابيب بطول نحو 1900 كلم ووظيفته نقل الغاز إلى اليونان. لكن أخيراً جرى التشكيك في إمكانية تنفيذ هذا المشروع، وقيل إن واشنطن أبلغت ذلك صراحة إلى قبرص واليونان الشهر الماضي.
في النهاية وأمام كل هذه التحديات الدولية والإقليمية، بات بوتين يدرك أنه لا أحد سيغامر بالتدخل عسكرياً دفاعاً عن أوكرانيا، وهذا ما أعلنه كل أركان الناتو، وعلى الرغم من أن سيناريو الغزو على هذا النحو كان معروفاً، وحتى توقيته كان معلوماً بحسب خلاصات أجهزة الاستخبارات الأمريكية والأوروبية، فإن كل ما حصلت عليه كييف، حتى بعد الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، دعم لفظي وأسلحة محدودة وعقوبات على روسيا، ينتظر أن تتصاعد وتصبح أكثر إيلاماً بعد بدء الغزو الموسع، ولكن ما يعيه بوتين أيضاً، وهذا الأهم، أنه منذ إطلاق العملية العسكرية فُتِح باب التفاوض من مكان قوة، ليس فقط لتحديد مصير أوكرانيا، بل أيضاً رسم مستقبل أوروبا الأمني لعقود طويلة مقبلة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.