“أشعر أنني من كوكب آخر”.. إلى أين يقود سعيّد تونس بعد معركته مع القضاء؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/02/23 الساعة 11:37 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/02/23 الساعة 11:49 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيد/ مواقع التواصل

تماماً كما في المعارك العسكرية- التي يحلو للرئيس التونسي الاستعارة من معجمها- لا يكفي القصف المكثف لتحقيق الانتصار، فلا بد- للإيقاع الهزيمة بالخصم- من القدرة على الاحتفاظ بالمواقع التي يتم اكتساحها.

أغلق الرئيس مقر المجلس الأعلى للقضاء ثم أعلن حله وطرد أعضائه المنتخبين في انتظار تعيين من يحل محلهم. كأنها جيوب مقاومة تتساقط إثر هجوم عسكري كاسح.. دبابة بعد دبابة!

ليست مقاطعات انفصالية ترغب دول مجاورة في ضمها.. ككشمير بين الهند وباكستان أو "ناغورني كاراباخ" بين أرمينيا وأذربيجان.. ولكنها مدار صراع توسعي  كدونباس في شرق أوكرانيا.

النهمُ الرئاسي لا يرضيه إلا الاستيلاء "الاستيطاني" على مزيد من السلطات ومزيد من الصلاحيات. وفي ساحة "الوغى" بالعاصمة التونسية، سقط جيب مقاوم لطموحات سعيد التوسعية في ضاحية باردو بإغلاق بوابة البرلمان وسقط آخران بإغلاق الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين وهيئة مكافحة الفساد ثم كانت المعركة الكبرى مع قلعةٍ رفضت رفع الرايات البيض وتسليم مفاتيح بوابتها رغم حصار رئاسي دام أشهراً طوالاً وقصف منجنيق التشويه والتهم بلا هوادة. وبدأت مقدمات حصار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بتجاهل استدعاء بعض أعضائها لأداء اليمين بعد أن نالوا تزكية البرلمان قبل تعليق أشغاله.

قوبل الهجوم الرئاسي الأخير على القضاء باستهجان كامل مكونات العائلة القضائية: المجلس الأعلى للقضاء، جمعية القضاة، نقابة القضاة، جمعية القضاة الشبان، اتحاد قضاة المحكمة الإدارية، اتحاد قضاة محكمة المحاسبات، بالإضافة إلى أغلب مكونات المجتمع المدني وقطاع واسع من المنتظم السياسي.

وانبرت كتيبة المفسرين تشرح فضائل المجلس الوقتي المعين وتبشر بإصلاح ينتهي بتطهير القضاء ومفاسد المجلس الذي تم انتخابه المحاصصات الحزبية والحسابات السياسية!

وفي هذه المرة لم تعد تكفي الحملات التفسيرية التي يقوم بها مؤيدو الرئيس داخل الحدود بل اقتضت مواجهة ردود الفعل الدولية الغاضبة من حل المجلس الأعلى للقضاء أن يتولى قيادة الحملة التفسيرية الرئيس نفسه!

بروكسل وما بعدها 

الأمر جلل.. ما في ذلك شك، فلم يكن خافياً أن الحضور الشخصي للرئيس التونسي سعيد في القمة السادسة المشتركة بين الاتحادين الأوروبي والإفريقي يومي 17 و18 شباط/فبراير تقرر في عجلة لم تترك مجالاً لإعداد ولا استعداد.

فبينما نشرت أغلب الدولة برنامج لقاءات وأنشطة وفودها قبل القمة بأيام، بقي الرأي العام في تونس يتابع مجريات القمة على وقع جدل حامي الوطيس بين مساندي الرئيس ومعارضيه حول فشلٍ متوقع وأكيد أو نجاح نسبي مفتاحه الإصرار والإلحاح.. والرضا بالقليل!

كانت مناسبة لإثبات أن الرئيس لا يعاني من العزلة "كما يزعم معارضوه.. استجمع سعيّد شجاعته ليطير على عجل إلى بروكسيل دون مدير ديوانه ولا سفيره هناك ولا المستشارة الدبلوماسية ولا المستشارة المكلَفة بأوروبا ولا إعداد جيد!

وكان لافتاً غياب الوفد التونسي عن ورشات العمل والتركيز على ما يخدم الجهد الدعائي من لقاءات ثنائية قليلة اقتصرت على رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيسي مصر والنيجر، وجاءت ملابسات لقاء الرئيس مع رئيسة البرلمان الأوروبي، ومع الأمينة العامة للمنظمة الفرنكوفونية لتنغص على أنصار الرئيس احتفاءهم بفك عزلته الدبلوماسية بعد زيارته لمصر التي تعود لأكثر من ‏10 أشهر.

‏ثار الجدل المعتاد حول مواهب مصالح الإعلام في الرئاسة في التغطية الانتقائية لمجريات اللقاءات، فبينما نشرت رئيسة البرلمان الأوروبي بعد لقائها مع الرئيس التونسي تدوينة أكدت فيها "ضرورة العودة إلى ديمقراطية برلمانية فاعلة وتوازن فعال للمؤسسات"، كانت ترجمة ذلك في صفحة الرئاسة بأن "البرلمان الأوروبي يتابع الوضع في تونس، وهو يأمل في أن تتمكن بلادنا من تجاوز هذا الظرف من أجل دعائم المكاسب التي تحققت لها وتحقيق ما يتطلع له الشعب التونسي"!

وبعيداً عن سجالات الموالين والمعارضين لسعيّد وما يقوم به الرئيس داخل تونس وما يحاول القيام به خارجها، المثير للانشغال فعلاً أنه مهما كانت الصورة قاتمة فالقادم قد يكون أشد قتامة!

ما يثير تخوف المتابعين للشأن التونسي- بالإضافة إلى مخاطر الانهيار الاقتصادي- هو أن  الحديث عن شعب تونسي واحد يوشك أن يُصبح من قبيل التجاوز المُجافي للواقع فليس من أولويات أي من الطرفين المتقابلين نزع فتيل التوتر واستحضار المشتركات والنظر إلى السقف الذي إن قُدِّر له أن يسقط.. فعلى رؤوس الجميع!

كوكب الرئيس

رسم الرئيس عالمه الخاص بنفسه بقوله: "أشعر بأنني من كوكب آخر".

وفي البداية ظن الجميع أنه يستعمل صيغة مبالغة يجلب بها الانتباه ويؤكد من خلالها اختلافه عن الآخرين، ولكن مع الأيام أصبحت هذه العبارة تثير من القلق والتوجس أكثر من إثارتها السخرية. فكوكب الرئيس هذا مناخه حار ملتهب يعيش ساكنوه على وقع الهجمات اللفظية والشتائم والاتهامات ضد المعارضين ولا يُفلت منها إلا مَن والاه وحسُن ولاؤه، وحاكمه عابسٌ متجهم لا تعرف الابتسامة إلى قسمات وجهه سبيلاً!

ولا مجال فيه لتشاركية ولا لحوار.. والأهم أنه لا مجال فيه لتسويات ولا حلول وسط فكل من يعارضون الرؤى الجديدة والحلول المبتكرة التي يتم التبشير بها هم من المناوئين الذين لا يُفسَح لهم مكان ولا يُسمَع لهم رأي.

الأعراف الدبلوماسية بأنواعها لم تعد لها حاجة ولم يعد الانفصام بين الأهداف والوسائل يصدم أحداً فبينما يعيش الاقتصاد أوضاعاً شديدة التعقيد وتمد الحكومة يدها للمؤسسات المقرضة والدول المانحة لتوفير التمويل للميزانية وتفادي الإنهيار الاقتصادي.
لا يفوت الرئيس فرصة لا يقوم فيها بتغذية الريبة والشك بتكرار اتهاماته لمن حكموا البلاد بالفساد وبنهب ما مُنِح لها من قروض وهبات والمطالبة بالتحقيق في مصارفها بل وفي مصيرها!

ومما يزيد الأمر تعقيداً أن قدرة معارضي الرئيس على الاستفادة من تخبط قراراته تبدو محدودة فالقدرة على التحشيد الجماهيري للاحتجاج على انفراده بالسلطة لا توازيها قدرة على جمع كلمة المعارضة حول بديل ديمقراطي يفتح أفقاً لما بعد سعيّد.

مخاطر حقيقية وآمال باهتة!

عزلة السيد سعيّد داخلياً وخارجياً أصبحت أمراً واقعاً لا جدال فيه، ولكن السؤال الذي يتفادى طرحه كثير من معارضيه -المفرطين في التفاؤل- هو: ما معدل أعمار الأنظمة التي تعيش عزلة مشابهة؟ وما مقومات استمرارها؟ وعوامل تهاويها؟ ومفاعيل سقوطها؟

ما يخيم على الصورة التي تعكسها الساحة هو عجز الرافضين للانحراف الرئاسي نحو الحكم الفردي عن صياغة استراتيجية موحدة لمقاومة الانقلاب لأسباب، أهمها الخلافات الأيديولوجية والسياسية المتوارثة طيلة سنوات طويلة، والاختلاف الحاد في تقييم تجربة الحكم بعد الثورة ومدى المسؤولية عن الأزمة التي سمحت لقيس سعيّد بالانفراد بكل السلطات.

لا يخفى على المطلعين على الشأن التونسي أن خلافات النخبة- على أهميتها وخطورة القضايا التي تتعلق بها- لا تمثل الخطر الأكبر على البلاد، فتونس تعيش انقساماً شعبياً حاداً وعميقاً تزيده الأزمة الاقتصادية والجائحة المالية خطور.

نجح قيس سعيّد بخطابه الشعبوي وباستفادته من أخطاء- وخطايا- خصومه، في زرع وَهْم مدمر في أذهان قطاع واسع ممن ما زالوا يساندونه رغم تردي معيشتهم يوماً بعد يوم بأن بلادهم غنية تزخر بالثروات، وأن ما يفصلهم عن الرفاهية وتجاوز كل الأزمات هو استرجاع أموالهم المنهوبة في الخارج، والزج بالفاسدين من السياسيين ورجال الأعمال في السجون والمعتقلات.

ولئن كان من المفهوم أن تتفاقم سطوة الفضاء الافتراضي وما يمارسه من تكريس لحقيقة إعلامية سريعة الرواج شديدة النجاعة والتأثير، فقد تأكد مع تتالي المناسبات أن الرئيس لا يؤمن بأن الحقيقة القضائية هي المحددة في الجزم بالإدانة، بل كان يكفيه الاطلاع على التقارير الأمنية وحتى التدوينات الفيسبوكية لتوجيه الاتهامات بالفساد وحتى الإذن بتتبعات قضائية في اجتماعاته الوزارية المتلفزة (كما في حال الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي) أو تبرير تتبعات أمنية دون أي إذن قضائي (كما في حال الوزير الأسبق نور الدين البحيري).

صدمة أنصار الرئيس، إذ يكتشفون أن رفاهيتهم مشروطة بالعمل والتضحية والتفاني لا بحلم اقتسام ثروة خيالية، لن تكون آثارها نفسية بحتة بل كل الخشية أن تؤدي لاضطرابات اجتماعية لن تشابه في شعاراتها وأدواتها التظاهرات السلمية للمطالبين بالحرية واحترام حقوق الإنسان!

وفي تلك الأثناء، يعكف معارضو سعيّد على السعي لتحقيق أهداف لا يعادل جاذبيتها إلا انعدام القدرة على وضع أي جدول زمني لتحقيقها ومدى قابليتها للتحقق في الأمد المنظور، وهي على الأغلب لا تتجاوز نقاطاً ثلاثاً: العودة إلى شرعية الدستور والمؤسسات المنتخبة، وإرساء نظام ديمقراطي تشاركي قائم على الفصل بين السلطات، واتخاذ الإجراءات الضرورية للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية واستجماع شروط التنمية والنهوض الاقتصادي وإرساء العدالة الاجتماعية.

هي معركة لا متوازية، أسلحة المعارضين فيها هي الكلمة والصورة والخطاب والتظاهرات المدنية السلمية التي يحرص منظموها على عدم الاصطدام بأجهزة الدولة الصلبة من قوات حاملة للسلاح أمنية وعسكرية.

وقد بينت التجارب المقارنة في مقارعة الأنظمة المستبدة أن أكبر المستفيدين من خيار العنف هي الأنظمة ذاتها، وأن الشعوب هي التي ستدفع أثماناً باهظة من حقوقها وحرياتها ومقدراتها!

قصارى أمل المعارضين أن يسقط نظام سعيد بمفعول نفاد الوقود عن محركاته: تفاقم العزلة داخلياً وخارجياً وتعدد الجبهات المفتوحة مع الهيئات والمؤسسات التي يتم استهدافها.. وتأكد العزوف عن رزنامته "الانتخابية" الأحادية الذي بدأ في تدني عدد المشاركين في الاستشارة الإلكترونية.. وتصاعد الحراك السياسي المعارض بأكثر زخماً وبجبهات أكثر تمثيلية وبامتداد جغرافي إلى الجهات الداخلية.

نقطة الضعف الكبرى- حتى إشعار آخر-  هي غياب الرؤية المتكاملة لمواجهة تمدد الحكم الفردي وتفاقم التدهور الاقتصادي وعدم القدرة- لحد الآن- على تقديم جواب مقنع وذي مصداقية على سؤال: من وماذا بعد سعيّد؟!

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

سمير ديلو
سياسي ومحامي تونسي
تحميل المزيد