كثير من القضايا التي يثيرها غير المختصين بدراسة الإسلام، ولا العارفون بأبجديات البحث العلمي فيه، هي قضايا في أصلها تم نقاشها، وإثارتها، سواء كانت من الثوابت أو المتغيرات في الدين، لكن مشكلة الكثيرين في زمن الوجبات السريعة، أنها أصبحت موضة أيضاً في البحث العلمي، فمطلوب السريع والحار، وكلما زادت بهارات المادة زادت المشاهدات.
ومن بين هذه القضايا التي شغلت بها السوشيال ميديا ووسائل التواصل الاجتماعي: معراج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، وما جرى فيه من أحداث، في ليلة الإسراء والمعراج، ولو أن باحثاً متقناً للتراث الإسلامي لأدرك أن النقاش في هذه القضايا قديم وموجود منذ عهد الصحابة الكرام، ومدوَّن في كثير من كتب التراث، فالنقاش دائر بينهم في حكم من ينكر الإسراء، وحكم من ينكر المعراج، وهم يفرقون بين منكرهما؟
النقاش حول الإسراء والمعراج
وهل كان الإسراء والمعراج ليلاً يقظة أم مناماً؟ وهل كان بالروح والجسد، أم بالروح دون الجسد؟ وهل كان رؤيا أم حقيقة؟ كل هذه أسئلة مستمرة في النقاش منذ طرح الموضوع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى عهودنا العلمية القريبة، فندرس في معاهدنا العلمية كل هذه القضايا، وسر نقاشها: أن إثارتها موجود، وأنه نقاش داخل دائرة البحث العلمي الإسلامي، ولكن في إطار البحث العلمي الجاد، والمتقن، والحقيقي.
فعلماؤنا يفرقون بين من ينكر نصاً في القرآن الكريم، لأنه متواتر، وبين من ينكر نصاً في السنة النبوية، لا يصل حد التواتر، فحكموا بأن منكر الإسراء كافر، إن كان يعلم الحكم، وتم البيان له، بحسب تفاصيلهم في مسألة الحكم بكفر إنسان ينكر صريح القرآن، أما منكر المعراج فحكموا بأنه مبتدع، أو فاسق، أي: أنه في دائرة الإسلام، وليس خارجه، وأيضاً يتم التوضيح له، ونقاشه في الأمر، في إطار العلم والتعلم.
وقد دار نقاش كبير بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين والسلف، في قضية المعراج تحديداً، فالإسراء يمكن وصف الأماكن التي رآها صلى الله عليه وسلم لهم، وقد زاروها من قبل؛ ولذا لا يمكن لكفار قريش وقتها تكذيبه بعد التدليل على صحة ما رأى وهم يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يذهب إلى بيت المقدس من قبل، وليس هناك نقاش للمعاصرين حوله الآن، بعد تقدم العلم والتكنولوجيا في السفر والوصول إلى القمر. أما المعراج فلن يكون لديهم دليل للتصديق أو التكذيب، لأنه لا توجد أي سابقة لأحد بالصعود إليها، ولم تذكر الكتب السماوية السابقة تفاصيل هذه السماوات، فتظل في باب: الإيمان بالغيب.
بل إن النقاش الذي دار بين الصحابة والسلف كان عن الإسراء كذلك، هل كان يقظة أم مناماً، وهل كان بالروح والجسد أم بهما معاً؟ فقد ذكر الإمام ابن القيم أن السيدة عائشة ومعاوية رضي الله عنهما يريان أن الإسراء كان بالروح، ولم يفقد صلى الله عليه وسلم جسده. ونقل ذلك أيضاً عن الحسن البصري. "انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (3/36)". بل اختلفوا هل كان الإسراء مرة أم مرتين، فمنهم من قال: كان مرة واحدة، ومنهم من قال: مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً.
وقال ابن القيم: (الذين قالوا: عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم طائفتان: طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالوا: عرج بروحه ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناماً، وإنما أرادوا أن الروح ذاتها أسري بها، وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر بعد المفارقة، وكان حالها في ذلك كحالها بعد المفارقة في صعودها إلى السماوات سماء سماء حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فتقف بين يدي الله عز وجل فيأمر فيها بما يشاء، ثم تنزل إلى الأرض، والذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة). "انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم (3/36)".
هذا الخلاف هو ما جعل العلامة الشيخ محمد رشيد رضا يقول في سؤال وجه له عن المعراج كان في اليقظة أم المنام، وروحاني أم لا؟ فقال: (اختلف علماء السلف والخلف في الإسراء والمعراج، أكانا بالروح والجسد أم بالروح فقط، وفي اليقظة أم في المنام، وقد كنا في أول العهد بالتمييز نسمع ذكر هذا الخلاف في المساجد عندما تقرأ قصة المعراج في الليلة السابعة والعشرين من رجب كل سنة؛ وإذ كانت المسألة خلافية، فما على الباحث من سبيل إذا ظهر له رجحان أحد الأقوال أن يقول به، وسبق لنا ذكر هذا القول في المجلد الأول من المنار، وقد رجح بعض المحققين أن الإسراء نفسه كان روحانياً فما بالك بالمعراج؟). "انظر: مجلة المنار الجزء 14 سنة: 1911م ص: 664-668. بتصرف. وفتاوى رشيد رضا (3/1052،1051)".
إذن النقاش قديم حديث حول الإسراء والمعراج، وهو ما نراه في كتب المعاصرين، مثل كتاب: الإسراء والمعراج للشيخ محمد متولي الشعراوي، فهو يناقش كل هذه القضايا، ويرد عليها، ويثبت ما يتبناه من أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد، وكان يقظة ولم يكن مناماً، وإلا لم يكن معجزة، ولا حدث النقاش الدائر بين كفار قريش والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة؟
وقبل الشيخ الشعراوي منذ سنوات طويلة في بداية القرن العشرين، ناقش الشيخ عبد العزيز جاويش أيضاً المعراج، وبعده ناقش الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسيره الموضوع، والدكتور أحمد شلبي في كتابه عن التاريخ الإسلامي في الجزء الخاص بالسيرة النبوية، والعلامة الشيخ محمد صادق عرجون في كتابه: محمد رسول الله، في الجزء الثاني منه في صفحات طوال ناقش الموضوع، وساق الروايات الواردة، ومنها ما ورد بخصوص الإسراء والمعراج، وأدلة ما حدث فيهما، وغيرهم كثيرون. "انظر: محمد رسول الله لمحمد الصادق عرجون (2/327-367)".
ولكنه كان نقاشاً علمياً هادئاً، مبنياً على التخصص والدراسة والبحث، وفي أماكن البحث العلمي، بلغة علمية تبتغي الوصول للحقيقة، فجل هؤلاء يؤمنون بالإسراء والمعراج، وبوقوعهما، ولا ينكران حدوث أحدهما، ولكن النقاش في كيف حدث؟ وفي نقاش بعض التفاصيل التي في السنة النبوية في رحلة المعراج، وعرض هذه الأحداث على نصوص قرآنية أخرى تتعارض معها.
لكن ما تناقله الإعلام عن أحد الإعلاميين هو ليس نقاشاً علمياً، بل هو تجاوز لكل القواعد العلمية، فصياغة الكلمات لم يكن فيها أي تقدير، بينما حينما ناقش مرشحاً عسكرياً للرئاسة وأصبح رئيساً لمصر بعد ذلك وحالياً، وقال له الإعلامي: حكم العسكر، فقال له: لن أسمح لك أن تقولها مرة أخرى، ولم نسمعها على لسان أو قلم هذا الإعلامي، فقد التزم الأدب مع الرتبة العسكرية، بينما لم نجد هذا السلوك مع مقام البحث العلمي، فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع علماء الأمة قواعد للتدقيق والتمحيص في سُنّته وسيرته.
مشكلتنا أننا أصبحنا أمام ظاهرة تتدثر بعباءة البحث العلمي، بينما هي تبحث عن التريند، وتبحث عن الإثارة، وتبحث عما يشغل الناس عن واقعها وقضاياها، فهم مهرة في البحث عن كل ما يتعلق بالأموات، لكنه لا يجرؤ على إثارة موضوعات تتعلق بالسلطة والأحياء منها، وهو ما أسميته بـ: النضال الطري، المناضل الطري هو من يشهر سيف قلمه وصوته للنيل من أصحاب القبور، لكن أصحاب القصور في الحكم، فهو من أعجز الناس عن الدخول في أي معركة علمية أو فكرية أو تنويرية يمكن أن ينال جزاءها قرصة أذن، أو جرجرة في المحاكم، والسجون، فضلاً عن المعتقلات.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.