قبل أيام نشر الصحفي المكسيكي نوا زفاليتا في مجلة "الصحافة" مقالاً ماتعاً، لا بسبب صياغته الدقيقة والرصينة، فحسب، بل للحقيقة البديعة التي نثرها في نص، كان حرياً بمديري الجرائد والقنوات ووسائل الاتصال الإلكتروني أن يعلقوه في قاعات التحرير، وفي الأروقة وفي دورات المياه، كي يتسنى للجميع الاطلاع عليه، تماماً كما كانت قريش تحتفي في إبان الجاهلية بالمعلقات الشعرية، على أستار الكعبة، في مواسم الشعر والحج والتجارة.
استهل الكاتب عنوان المقال "الصحفي المتغطرس" بجملة أخلاقية لكاتبها ميغيل أنخيل باستانيير، تقول: "في الطريق إلى أن تصبح صحفياً، كل الأشياء ذات أهمية، لكن أهم الأشياء أن تكتب كما أمر الله، والله يأمر أن تكون قارئاً بالأساس، وأن تقرأ المزيد باستمرار".
والغوص في نفسية الصحفي المتغطرس دفعته إلى التوضيح بجملة تلخص، إلى أي مدى يمكن للصحفي أن يصبح شيطاناً لا يكتب بما أمر الله، بل بما تمليه عليه ذاته "الباثولوجية"، و"البارانويائية"، المصطلحان اللذان يوحيان بأن هذا الصنف مريض بالتوهم بأخيّلات، تتعلق في موضوع الحال بوهم العظمة، تلك الحالة النفسية التي تحوله مع مرور الأيام لكاتب ينتمي لقبائل الكانيبال دون أن يشعره "الغرور" بتلك الغطرسة التي تجعله مستلذاً بأكل لحم البشر أو كما غراب زاعق يكتب لنفسه دورة جديدة في الحياة، كلما ولغ منقاره في الأشلاء والأحشاء والدماء، وكما يتعرف الهنود الحمر على المطر القادم بنقيق الضفادع، يدرك الغراب أن الزعيق حالة عرس حول جيفة.
1/ الصحفي الذي قتل البطل مقابل قصة مثيرة
قبل أعوام عرضت الشاشات الأمريكية فيلماً سينمائياً ثميناً ومثيراً، جسَّد فيه الصحفي الأنيق حامل الكاميرا، دور وحش ضحوك، مهذب، لكنه لم يكن حاملاً آلة تصوير بل سلاحاً رشاشاً، أو سلاحاً أبيض.
يروي الفيلم المزعج قصة صحفي بقناة أمريكية خاصة، كان يحقق نسب مشاهدات عالية، قبل أن تنهار بورصته في سوق لا يعرف فيه نجوم الإعلام سوى متأخرين، كما عارضات الأزياء، أنهم سلعة يجري عليها ما يجري على الأحذية والجوارب وربطات العنق، من قانون العرض والطلب. تم تنزيل ذلك الصحفي إلى تصوير أحداث ثانوية، وطبيعي أن يشعر النجم اللامع بالإحباط واليأس والخوف من الغد، وهو يرى أفوله يهوي به من قمة إدارة برامج الحوارات "التوك شو" إلى قاع متابعة الأخبار والحوادث و"الفاكت فاريوس".
وكان ذات يوم داخلاً إلى متحف لإجراء مقابلة مملة مع مديرته، قبل أن تنقلب الأوضاع رأساً على عقب في الباحة، ليتكشف المشهد على اقتحام رجل أسود للمكان، حاملاً سلاحاً مهدداً باحتجاز الرهائن، متأهباً لصناعة ذلك النوع من الحوادث الهوليودية التي تتمنى القنوات وقوعها عند الفطور والغداء والعشاء لتقدم لها وجبة طازجة تشبع بها نهم المتابعين، فترفع نسب المشاهدة وترقع حافظة نقودها بسيول من المال الناضح عبر شركات التمويل والإشهار.
تبدت "المأساة" نجدة قدمها القدر للصحفي، فقرر البقاء مع المقتحم، فاتحاً له الكاميرا، للفوز بحصرية البث، فتقدمت قناته على باقي القنوات، وصارت المصدر الوحيد لها، فأعاد الصحفي الغريق نفسه لقلب الحدث وقد كان مرشحاً أن يدفن تحت الماء.
وفي لحظة خبث ومكر سيقرر الصحفي الناجي إطالة عمر أزمة الرجل الأسود، الذي برر فعلته بسبب تسريحه من الشغل، بأن صار مستشاراً له، يوجهه فيما يجب أن يقول، وما يجب أن يصرح به، ليس من أجل أن يبحث له كإنسان بطال عن حل، بل لكي يستمر كصحفي في احتكار تلك القصة الحصرية، فصنع منها مسألة عائلية مع زوجته، ثم عرقية تخص صراع البيض والزنوج، قبل أن تصبح مع مرور البث والنقل والإطالة والتعقيد إلى عملية إجرامية.
في نهاية المطاف يخرج الصحفي المنتصر، تحت أضواء سيارات الشرطة، ويقتل الفاعل الذي هدد بنسف المبنى، أمام أعين كاميرات القنوات، وأما الصحفي ضحية الشهرة والأنانية، فقد اتضح أنه أكل جثة الرجل، وصار بطلاً، قتل القتيل ولم يمشِ في جنازته إذ عاد إلى بيته، وقد تحول عن وظيفته الأساسية في نقل الحقيقة، واستغل مأساة الرجل ليصنع منها قصة مثيرة، تليق به لا بذلك الساذج الملون الذي رحل إلى القبر فانتهى الخبر.
يختتم الفيلم بوجه تائه للصحفي، فلا تشعر إن كان وقع تحت طائلة الندم على ما فعل، أم سقط تحت طائلة الفخر بما فعل.
2/ ميديا بلا غائية: صراع ديوك النخبة في خمّ دجاج الشعوب
في واقع الحال، نلاحظ منذ مدة، وبعيد انفجار وسائل الميديا، كلمات جديدة، قضت على سفينة الصحافة باعتبارها مركب نجاة وحيداً لقول الحقيقة، الحقيقة تلك الجثة المكفنة بين قماط مصطلحات جديدة مثل:
"البوز" و"التريند" و"الشير" و"اللايك" وغيرها من المقتنيات الحديثة، التي ينشر من خلالها التضليل والاستغلال والتلاعب والتجييش، دونما تفكير في الضرر والفتن، مثل أن تتحول تصريحات هامشية لشخص مغمور، لجدل فوق الجدل يسقط في فخها المشاهير، فتنجرف الشعوب إلى الغوغائية والجاهلية، البعيدة عن غرابيل سقراط الثلاثة، الذي ظل يرفض أن تنقل إليه الأخبار غير "الحقيقية"، وغير "المفيدة" وغير "الخيّرة".
قبل أسابيع اهتزت العلاقات الروحية بين الشعبين الجزائري والتونسي، التي يسودها الترابط الأخوي والانصهار العاطفي، ليس منذ أحداث ساقية سيدي يوسف العام 1958، التي امتزجت فيها الدماء، بل لعهود غابرة، امتدت لحنبعل بركا والنوميديين والزيريين والحفصيين والأغالبة، بسبب "ذباب الكرة"، الذي حول تعليقات نجمين إعلاميين، هما عصام الشوالي وحفيظ الدراجي، إلى حروب "الأنف والخسارة". كان سهلاً لأي صحفي الاتصال بالشخصين للاستيضاح من المصدر كشكل بديهي لقواعد المهنة، لكن لا أحد فعل ذلك، بل تم اللجوء إلى حواشي الفيسبوك الذي انقسم لمعسكرين متراشقين، فخضع له صناع الرأي منخرطين في معارك الدجاج المكسيكي، كأنهم في صراع قومي وطني، دونما إدراك لمفعول ما يسمى "نظرية أثر الفراشة"، وتعني أنك تجرف كامل متابعيك لرأيك، فتضخم الحادثة فيراها من لم يسمع بها، ثم تنتقل للطرف الآخر برد من متابعين، فتصير كرة ثلج، ثم يتدخل لاعبون قدامى وجدد، أفضل ما فيهم أقدامهم وصحفيون متسلقون لموجة للجمهرة، وظيفتهم الأساسية هي تقديم تحليلات فنية وتقنية لا غير، فيقررون إنهاء الأخوة صوتياً، كما لو أنهم زعماء العلاقات السياسية والخارجية والدبلوماسية، وشيوخ إفتاء رياضي يقررون العبث بالمصالح الاستراتيجية بين البلدان، بسبب تعاليق في "ماتش" كرة، لكن ذلك لم يحدث، لأن عقل الدجاج يفكر بالأرجل، حيث تطفئ نزوة اللحظة المتغطرسة كل حواس اليقظة والتساؤل عن "الغائية" والحيطة من الآثار المدمرة.
3/ سبق النسر والجثة: جائزة بوليتزر التي قتلت كيفن كارتر
وفي خضم المآسي، مثل حادثتي الشاب عياش والطفل ريان، وكلاهما هلك في حفرتي بئرين بالجزائر والمغرب، تجلى آكلو الجثث البشرية بشكل متهافت، فلم يكن يهمهم ذلك الطفل المدفون في حفرة، ولا والده البائس، ولا أمه التي لم تشرب قطرة ماء من البئر المعطلة، إذ راحت تنشر قنوات إلكترونية وصفحات إعلامية عبر الفيسبوك أخباراً مغلوطة عن استخراجه، أكثر من مرة، ناشرة مقاطع فيديو وصوراً عن حوادث أخرى، فيما كان الطفل "ميتا" في الأعماق. لقد صرح الوالد قائلاً: "لقد فتحوا صفحات باسمي، واستغلوني من أجل الحصول على المال فيما ابني تحت الأرض".
إليكم في النهاية ما كتبه نوا زفاليتا:
"الصحفيون الجيدون لا يفعلون ذلك، احترموا أنفسكم واحترموا قُراءكم، لقد ملت الجماهير.
رغبة الصحفي في تحقيق الشهرة واقتحام دور البطولة وجذب المشاهدين. دعوا ذلك للسياسيين ونجوم التلفزيون، اتركوا هذه الطريقة السائدة لليوتوبرز والمؤثرين، الذين يلزمون هواتفهم النقالة بينما هم يسقطون من فوق لوح للتزلج، أو يتحدون الحيوانات البرية، أو يدخلون أشياء غريبة في فتحات أنوفهم لجذب انتباه مشاهدي شبكات التواصل الاجتماعي".
كان كاتب المقال يتحدث عن الصحفي الذي يؤثر الحديث عن معاناته الشخصية، وما يعترض سبيله من عوائق في سبيل كتابة موضوع أو في إعداد تحقيق، جاعلاً من نفسه بطلاً قبل الخبر والموضوع والتقرير والتحقيق، أو شهيداً حياً في سبيلها، وبعبارة أخرى عارضاً زيه قبل الحقيقة، ولو أنه رأى التلاعب الإعلامي والاستغلال البشع لمأساتي ضحايا البئرين، الشاب عياش في الجزائر، والطفل ريان في المغرب، بهدف مضاعفة "المشاهدات" و"الإعجابات" والمتابعات، لكان حتماً كتب عن الصحفي "الغراب حامل القلم والكاميرا" آكل لحوم البشر ومزدرد أشلاء الجثث.
وليس هذا ما يدعو للزهو المهني أو الفخر الكذوب؛ إذ يتذكر عالم الصحافة قصة المصور الصحفي الجنوب إفريقي كيفن كارتر، الذي التقط إحدى أكثر الصور تأثيراً في العالم، غداة مجاعة السودان العام 1993، صورة الفتاة الجائعة الزاحفة ببطء لتلقي حصة طعام من مركز إغاثة، فحط خلفها نسر، كان يتحين فرصته، ولحظة موتها كي يأكلها. نال كيفن كارتر جائزة بوليتزر العالمية، فتلقى أموال الجائزة، بعد المبلغ الذي ناله من جريدة النيويورك تايمز التي اشترت الصورة.
في اليوم التالي كان الآلاف من قراء الجريدة يتصلون للسؤال عن مصير الفتاة هل نجت؟ أم أكلها النسر؟ أما صاحبها فكان عرضة لنقد كبير، تلخص فيما يلي "كان الأحرى بك أن تنقذها بدل أن تلتقط تلك الصورة البشعة"، ولقد رد بأن عمله هو التقاط الصور، وأنه سارع لالتقاط الصورة قبل أن يقوم بطرد النسر، لتصل الفتاة إلى مقصدها بسلام.
بعد ثلاثة أشهر أقدم كيفن على الانتحار لأسباب متشعبة، ما بين مادية ومعيشية ونفسية، بينها صور ذلك الجوع الذي يلتهم البشر حتى حوّلهم ولائم متهالكة للنسور والغربان وعدسات التصوير.
نقلت تقارير أن المصور عاش معركة تأنيب ضمير إنساني جراء التقاط تلك الصورة المهنية، ضاعفت حالة الاكتئاب التي تلبّسته، ترك رسالة:
"أنا حقاً حقاً آسف، ألم الحياة يتجاوز بهجتها إلى درجة أن البهجة لم يعد لها وجود أبداً، الاكتئاب، دون هاتف، دون مال للإيجار، دون مال لإعالة الأطفال، دون مال لدفع الديون، مال! أنا مسكون بذكريات حية عن عمليات القتل والجوع والغضب والألم، ذكريات الأطفال الذين يعانون الجوع والألم، ذكريات رجال حرب مبتهجين ومجانين، غالباً من الشرطة، أو القتلة الجلادين، سأذهب لألتحق بكين -صديق ميت- لو يحالفني الحظ في ذلك".
4/ ما بين زمنين: الصحفي العضوي والصحفي العَظْمي
تلاحظ بحسرة ممزوجة بالتراجع ما ينشأ لدى أجيال جديدة من متعاطي الميديا بعيداً عن سفينة الصحافة، التي عاشت ردحاً من الزمن بشراع يقودها للوصول إلى هدف وحيد، هو ريح الحقيقة ولو كانت جزيرة ضائعة في جزر الواق واق أو بحر الظلمات، وهي تمخر العباب ببطن هيكل محكم الأخشاب ببنود أخلاقيات المهنة، وهما المبدآن الأساسيان اللذان جعلاها مهنة الكلمة النبيلة والصورة النبيلة، ولئن تحدث الكاتب الإيطالي الشهير "إمبرتو إيكو" صاحب الرواية الأسطورية باسم الوردة، الحائز جائزة نوبل عن غزو البلهاء لفضاء التواصل الاجتماعي الذي يتساوى فيه رأي السكير مع رأي الحائز أعلى تقدير أدبي في العالم، بسبب إتاحة النقرة والشاشة للجميع، فإن مهنة الصحافة الشبيهة بسفينة نوح الشهيرة، التي أنتجت في الماضي مفهوم الصحفي العضوي، ذلك المناضل الأسطوري المتشكك في السلطات.
وناشر الحقيقة، الساعي لتغيير الأوضاع وأنماط تفكير وسلوك الأفراد و الشعوب والأنظمة، صارت لغياب حصانة الحقيقة وتحصين أخلاقيات المهنة تخلف اليوم كائناً مشوهاً هو الصحفي العظمي، الذي هو إلى سلوك الكلب أقرب، حيث لا يهمه سوى إحضار الفريسة لينال المكافأة بالعظمة اللذيذة، أي بكثرة "المشاهدات" و "المتابعات" و "اللايكات"، أملاً في الاستفادة من الانتشار، لتحقيق الشهرة أو الغطرسة المقصودة، ثم الغرف من المال المترتب عن السلوك التجاري الذي تحصّله أنواع عدة من الميديا الجديدة، خاصة تلك التي لا تخضع لتراتبية الرقابة المتدرجة عبر الأقسام المحلية الرئيسية، ثم رئاسة التحرير ومديري ومسؤولي النشر، الذين يتحققون من الصحة والقيمة والأثر القانوني والأخلاقي، بخلاف النمط المستحدث الذي يسارع للنشر بلا رقابة دون التفكير في الأثر؛ سعياً للإثارة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.