اليوم وقبل أيام من ذكرى اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري 14 فبراير/شباط، علق الرئيس سعد الحريري عمله السياسي في لبنان، مؤذناً بإسدال الستار على مرحلة سياسية في لبنان، حاولت فيها السعودية الوقوف ضد إيران في المنطقة، وكانت الساحة اللبنانية أبرز هذه الساحات، ولكن مع مرور 17 عاماً، حزب الله الذي أرادت التضييق عليه وصولاً لإنهائه، أصبح اليوم على حدودها الجنوبية، وفي لبنان ازداد حضوراً وقوة، فيما سُحق تيار المستقبل تحت الأزمات التي عصفت به وأبرزها الأزمة المالية التي عرّته، فلماذا نجحت استراتيجية إيران مع حلفائها في إدارة معاركها في لبنان والمنطقة فيما وجدت السعودية نفسها مثلاً -باعتبارها ممثلاً للسنة- تحمل خفي حنين؟
الأيديولوجيا هي البداية والنهاية
واقعياً يأتي أول الأسباب أن حزب الله لم يأتِ بين ليلة وضحاها، بل هو نتاج تخطيط وجهد وصبر سنوات طويلة، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وجدت شخصيات لبنانية نفسها في خطاب الإمام الخميني وفي شعارات الثورة الإسلامية، فولّد بذلك أقوى محرك لحزب الله وهي أيديولوجيته، واستطاع حزب الله أن يراكم عمله من مجموعة هامشية ضمن الطائفة الشيعية لا تتعدى العشرات، حتى وصل اليوم ليكون أكبر الأحزاب شعبية في لبنان، وقد حصل في الانتخابات السابقة سنة 2018 على 342 ألف صوت.
فيما تيار المستقبل الذي وُلد بحالته الشعبية مع اغتيال رفيق الحريري 2005، وجد نفسه بين ليلة وضحاها مارداً كبيراً، فيه مئات الآلاف، ولم يمضِ سنتان على هذه الحالة حتى وُلد التيار بحالته الحزبية وأعلن عنه سنة 2009، إلا أنه وحتى إعلان الرئيس الحريري تعليق عمله السياسي، فشلوا في تبني أيديولوجية واضحة، فتارةً يشارك أمينه العام باجتماعات في الصين مع الحزب الشيوعي الصيني، ثم يسافر إلى ألمانيا للمشاركة باجتماعات للأحزاب الليبرالية، ويعود إلى بيروت للاحتفال بعودة حجاج بيت الله الحرام.
الخطوات الواضحة
مما لا شك فيه أن لعبة الأمم جزء أساسي من حياة الشعوب في منطقة الشرق الأوسط، ويصادف في الكثير من الأحيان، أن تضرب تغيرات إقليمية معطوف عليها رياحاً دولية، فتترجم على أرض الواقع بمبادرات واتفاقات قد تخالف الاتجاهات السابقة للدول، ويحسب لإيران أنها حتى اليوم، ومنذ تأسيس حزب الله، استطاعت أن تحمي حزب الله والحوثيين وغيرهم من أن تترجم أي تغيرات على حسابهم وأمام جماهيرهم.
فيما لم تعطِ السعودية تلك التفاصيل أهمية، وعلى سبيل المثال المبادرة السعودية لإعادة سوريا الأسد إلى الحضن العربي 2009، والتي دفعت بسعد الحريري لزيارة بشار الأسد، وهو الأمر الذي بقي يدفع ثمنه حتى الأمس، ولعل خروج مجموعات من النخب على وقع الزيارة من التيار كانت أكبر ضربة أثرت على مساره التنظيمي فيما بعد.
وربما تتعرض إيران لبعض الهزائم والخسائر في المنطقة، وآخرها الانتخابات النيابية في العراق على سبيل المثال، ولكن يبدو واضحاً سياسة الاستيعاب وإدارة المعركة مع ثوابت ومتغيرات قائمة على دراسات علمية، فدائماً ما تقوم إيران بدراسات اجتماعية وسياسية تقيم فيها الأخطاء التي وقعوا بها، وكيفية تجنبها، ومعرفة الثغرات وإعادة بناء خططهم، كما يعلمون جيداً تأثير خطواتهم على صعيد الصورة الكبيرة لأحزابهم ومجتمعاتهم، فيما تتعرض السعودية لسوء إدارة إنتاج سياسية، لا تراعي فيها المعايير الاجتماعية للمجتمعات.
على سبيل المثال عملية احتجاز سعد الحريري 2017، فقد يكون تيار المستقبل فشل في اتخاذ قرارات صائبة في الكثير من القضايا في السياسة العامة الداخلية، ولعل أبرزها يعود لشخصية الرئيس سعد الحريري التي لا تناسب اللعبة السياسية في لبنان، واللعب بسياسة ناعمة مع مجموعة كبيرة من أمراء الحرب، وصحيح أن خيار الوراثة السياسية لرفيق الحريري كان قراراً سعودياً، لكن لا يمكن إخراجه من اللعبة السياسية بالطريقة التي حدثت سنة 2017، فالطبيعة الاجتماعية والنظام السياسي في لبنان يختلف عن السعودية، وهو أمر يؤدي لوجود علاقة مستقبلية مع حلفائها في لبنان والمنطقة، قائمة على ثقة مهزوزة.
الغائب عن العين غائب عن القلب
يحضر طيف الحرس الثوري الإيراني دائماً في أروقة وساحات حزب الله والحوثيين وأذرعه، فهو الذي يموّل وهو المهندس، فمنذ دخول "فرقة محمد رسول الله" من حرس الثورة الإسلامية إلى دمشق بقيادة "أحمد متوسليان" سنة 1983، مروراً بقاسم سليماني الذي كان دائم الحضور في لبنان والساحات، إلى شخصيات حضرت في السر والعلن، كانوا دائماً على مقربة من حزب الله، على اطلاع بخصوص تحقيقات بالفساد أو القبض على شبكات تجسس وغيرها.
فيما غابت السعودية عن أروقة تيار المستقبل، فالأموال التي دفعت على سبيل المثال بمئات الملايين التي تبني أحزاباً بدل حزب واحد، ذهبت واختفت كالسحر، وبينما أنشأ حزب الله مؤسسات تكاد لا تحصى، فشل تيار المستقبل في تأمين معاشات لموظفيه، وفي الوقت الذي كان يسهر الحزب ومن خلفه الحرس الثوري على سرية اجتماعاتهم وأمنهم، كانت الجلسات والاجتماعات التي تعقد في التيار وفي بيت الوسط تنشر في نفس الليلة في جرائد المحسوبة على الحزب وفشلوا في تدارك هذه الثغرات.
المنظومة الإعلامية
يُحسب لإيران بناؤها منظومات إعلامية تبدأ في إيران مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وصولاً إلى اليمن، وهو بشكل عام واحد من أهم أسلحة العصر وخاصة الإعلام الجديد المتعلق بالتواصل الاجتماعي، ولكن وجود تلفزيون أو إذاعة لا يعني بالضرورة أنهم سلاح إذا لم يتم توظيفهم بطريقة تسهم في بناء منظومة متكاملة، كما هو حاصل مع دول المحور والتي تعطي الإعلام مساحة وتركيزاً كبيراً، فيما أوجد الدعم السعودي لتيار المستقبل أكبر مجموعة إعلامية لبنانية وكفاءات من الأفضل في العالم العربي، لكنهم فشلوا في توظيفها كمنظومة واحدة، حتى وصل الأمر إلى انهيارها.
المعايير ثم المعايير ثم المعايير
تشكل لإيران عملية صناعة القادة واختيارهم أهمية كبرى، فعلى سبيل المثال الشخصيات القيادية للأحزاب والقادة من الأمناء العامين مروراً بالقادة المسؤولين والذين يتم اختيارهم بناءً على معايير ثابتة تأخذ بعين الاعتبار البيئة الاجتماعية والشخصية وغيرها من المعايير، وعلى سبيل المثال الأمين العام السابق لحزب الله الشيخ عباس الموسوي، ثم الأمين العام الحالي السيد حسن نصر الله.
فيما أهملت السعودية عبر سياستها اختيار شخصيات قيادية بالمعنى الشعبي، فحين تم اختيار سعد الحريري كوريث سياسي لوالده، لم تعطِ أهمية للقيادة السياسية داخل التيار، فكان المعيار الأساسي لاختيار الأمين العام للتيار المسؤول عن العلاقة مع الجمهور أنه ابن عمة الرئيس.
تحصد اليوم إيران ما زرعته من سنين طويلة، من استراتيجية ثابتة، وخطاب واضح، ودعم وثقة لامتناهية لحلفائهم، فحين يطلق الأمين العام لحزب الله موقفاً يدرك أن إيران سوف تبقى خلفه حتى النهاية وأنها لن تساوم عليه ليقدم تنازلاً أمام خصومه، لأهداف تبدأ وتنتهي بأبسط التفاصيل، بينما يرث الأمير محمد بن سلمان سياسة أسلافه السابقين من أمراء وملوك، التي أثبتت أن المال ولو كان كثيراً دون استراتيجية وصبر سنين يذهب أدراج الرياح، فالاستراتيجية دون خطة مع أبسط التفاصيل هي مجرد أوهام، خطة دون قادة حقيقيين هي وعود محفورة على الجليد، وسياسة دون قراءة التاريخ محكوم عليها بالفشل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.