منذ اتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية، أصبحت المملكة العربية السعودية شريكاً أساسياً في لبنان وراعية لآل الحريري، القوة الصاعدة التي حلّت مكان القوى السنية التقليدية بأغلبها إلا بعضاً ممن رحم ربي واستطاع الحفاظ على مقعده النيابي بصعوبة كرئيس الوزراء الراحل عمر كرامي في طرابلس وأسامة سعد في صيدا وغيرهما.
ظلت الرياض داعمةً لآل الحريري، فوقفت بجانب سعد الابن بعد اغتيال والده رئيس الوزراء رفيق الحريري، إلا أن اتساع دور "حزب الله" الإقليمي جراء تدخله العلني في الحرب السورية في أيار/مايو عام 2013 قَلَب الموازين والمعادلات الإقليمية.
فمع مرور السنوات، ازداد الميدان السوري تعقيداً مع تدخّل لاعبين كبار مباشرة كالأمريكيين والروس والإيرانيين والأتراك وغيرهم، ما أفسح المجال أمام "حزب الله" الذي راح نفوذه يكبر شيئاً فشيئاً حتى بات اليوم قوة أساسية بيد طهران في المنطقة.
الحريري يفقد داعميه
بالتوازي، بدأت ملامح الانزعاج السعودي من الحريري تتجلى، إذ تعتبر الرياض أنه لم يقم بما ينبغي في مواجهة "حزب الله". ومن المؤكد أن التطورات اللبنانية الداخلية من جهة واحتدام الخلافات السعودية-الإيرانية من جهة ثانية ساهمت في تأجيج الانزعاج السعودي من لبنان والحريري.
التعبير الصريح عن تبدّل الموقف السعودي كان في مطلع عام 2016، ففي شباط/فبراير، أوقفت الرياض، بشكل مفاجئ، مساعداتها لتسليح الجيش والأمن الداخلي بعد امتناع لبنان عن إدانة الهجمات التي تعرضت لها قنصلية وسفارة السعودية في إيران إثر إعدام الشيخ الشيعي السعودي نمر النمر. ظل الانزعاج يتصاعد إلى أنّ تخلّت المملكة عن الحريري في تشرين الثاني/نوفمبر من عام ٢٠١٧، في ظروف اختلط بها السعودي المحلي بالإقليمي. ومنذ ذاك، بدأت مرحلة الحريرية تخفت سياسياً ولكن من دون أن تعني خروج الحريري من المشهد بشكل كامل.
فعلى الرغم من بقائه رئيساً للحكومة بعد عودته "الفرنسية" من الرياض، وعلى الرغم من فوزه في انتخابات عام ٢٠١٨ النيابية، لم يطرأ أي تغيير على الموقف السعودي من الحريري، كما لم تتبنَّ الرياض أي قوة سياسية بالمعنى الاستراتيجي، بل تعاطت مع القوى الأخرى بالمفرّق وعلى القطعة؛ ولو بدا أنّ حزب القوات اللبنانية الأقرب إليها لكن من دون أن يكون قادراً على تمثيل حضور المملكة على الساحة اللبنانية بالمعنى السياسي.
من جانبه، لم يستطع الحريري كسب دعم أي قوة إقليمية أو دولية بعد اعتذاره عن عدم تأليف حكومته في تموز/يوليو الماضي، ولو أن بيان الرئاسة المصرية عشية إعلانه قراره حمل الكثير من مفردات الدعم الشخصي والعائلي لكنه كان الأخير. وآنذاك، صرح المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية المصرية في بيان له، بأنّ "الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رحب بالسيد سعد الحريري في مصر، مؤكداً دعم مصر الكامل للمسار الحريري السياسي الذي يهدف لاستعادة الاستقرار في لبنان والتعامل مع التحديات الراهنة".
أمّا بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، فكما يقول مقرّبون منها: "استقبلت سعداً لما كان عليه وليس لما سيكون".
في الحقيقة، قرّبت عوامل أخرى ساعة انكفاء الحريري، أو قرار "تعليق عمله السياسي". فبعد إدراج وزير الخارجية السابق ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على لائحة العقوبات، استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية في تشرين الأول/أكتوبر جهاد العرب، المقرّب من الحريري وأحد أبرز ممولي تياره السياسي، بما أُعِدَّ رسالة سلبية للحريري شخصياً.
شيئاً فشيئاً، لم يعد للحريري رافعة إقليمية أو دولية، وبدا ذلك جلياً عندما امتنعت القوى الوازنة عن ثنيه عن قرار الانكفاء، بخاصة فرنسا الدولة التي يحمل جنسيتها والتي نظّمت مؤتمر سيدر قبيل انتخابات عام ٢٠١٨ لتثبيت الحريري زعيماً ورئيساً للحكومة المقبلة.
ولعل البيان الذي وزّعته السفارة الفرنسية عن الناطقة باسم وزارة الخارجية خير دليل على ذلك، إذ تقول باريس في ما حرفيته: "أعلن رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري أمس انسحابه من الحياة السياسية التي لعب فيها دوراً مركزياً، ونحن كنا دوماً على اتصال منظم معه. هذا القرار يعود له ونحترمه ولا يعود لنا التعليق عليه، ويجب ألا يؤثر ذلك على ضرورة إجراء الانتخابات التشريعية في موعدها المقرر في ١٥ أيار/مايو بشفافية وحيادية. إن الأولوية يجب أن تعطى لتنفيذ القادة اللبنانيين الإصلاحات اللازمة لتحسين الأوضاع المعيشية للبنانيين والخروج من الأزمة، وتبقى فرنسا من جانبها مع جميع شركائها الدوليين والإقليميين مصممة على دعم الشعب اللبناني".
هذا البيان إنما يؤشر بصراحة إلى طبيعة تعاطي فرنسا، الدولة المعنية الأولى بأوضاع لبنان، مع أخبار اعتزال أو اعتكاف أو انسحاب قوة سياسية من المشهد الداخلي اللبناني.
ما التالي؟
صفحة طويت من تاريخ لبنان إذن، بل صفحة طويت من تاريخ نفوذ إقليمي تبدّل لاعبوه منذ الحرب الأهلية اللبنانية حتى اليوم. ففي مرحلة التسعينيات، لم تكن إيران ولا تركيا لاعبيْن إقليمييْن على مستوى العالم العربي، إذ كانت السيادة الإقليمية، على التوالي والتوازي، من نصيب مصر، وسوريا والعراق وليبيا ثم السعودية وسوريا.
مفاعيل الـ"س-س"، أي السعودية وسوريا، التي انطلقت مع الطائف انتهت مع انسحاب الحريري، والآن سيبدأ التفتيش عن البديل الإقليمي أو البدائل. فالمسألة اليوم تعدّت القوى السياسية اللبنانية والحضور السعودي والسوري، وبلغت مرحلة إعادة توزيع النفوذ في كل المنطقة. من جهتها، باتت إيران حاضرة في أربع عواصم، أمّا تركيا فبلغ نفوذها العراق وسوريا وأجزاء من القرن الإفريقي. بدوره، فَتَح اتفاق أبراهام (اتفاق التطبيع) دولاً عديدة أمام إسرائيل وأمّن لها حضوراً من الخرطوم إلى أبوظبي.
لبنانياً، ليس صدفة أن تتزامن مبادرة خليجية من 12 نقطة، أغلبها صعبة التطبيق حتى لا نجزم أنها غير قابلة للتطبيق، مع مرحلة حساسة افتتحها الحريري بإعلان الانسحاب من المشهد السياسي والانتخابي قبل 4 أشهر فقط من الانتخابات. ومن المتوقع لسبحة الانسحاب أن تكر لتلحق قوى سنية وربما قوى سياسية أخرى من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط إلى رئيس حزب القوات سمير جعجع.
بعد الحرب الأهلية، جاءت التوازنات بالحريري الأب رئيساً للحكومة، بل كرّست له هذا المنصب، وها هي التوازنات نفسها تطيح بالحريري الابن "زعيماً سنياً" بعد ثلاثة عقود.
اليوم، ومع بروز طهران وأنقرة كلاعبيْن أساسييْن وفي ظل تقلّبات العلاقة السعودية-الإيرانية وتطوّرات الاتفاق النووي الإيراني، تبدو الحاجة ملحة إلى ملء الفراغ السني في لبنان، لا سيما أن مراقبين يستبعدون خسارة "حزب الله" في انتخابات أيار/مايو المقبل، إذا ما سلّمنا جدلاً بأنها ستُجرى في موعدها.
نحن إذاً على عتبة مخاض كبير، مخاض إقليمي فيه توزيع نفوذ لا ينتظره لبنان فحسب، بل كل الدول العربية حيث تتشابك وتتنافر وتتصارع القوى الإقليمية فيها وعليها. وإلى ذلك الحين سيفتش سنة لبنان عن قائد أو قادة، وكذلك ستفعل كل المكونات اللبنانية التي اقتنعت بأن النخبة السياسية قد استُهلكت من جهة واستَهلكت طاقات اللبنانيين وثرواتهم من جهة أخرى.
فهل سيكون التفتيش طائفياً أم وطنياً، وهل سيعاد توزيع النفوذ داخل المكونات اللبنانية؟ أسئلة لا أحد يمتلك الأجوبة عنها إلا الزمن المتوسط الآتي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.