كيف تؤثر طبائع الاستبداد بالأخلاق والتربية والترقّي في المجتمع؟ الإجابة عند الكواكبي

عربي بوست
تم النشر: 2022/01/23 الساعة 09:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/01/23 الساعة 09:24 بتوقيت غرينتش
عبدالرحمن الكواكبي (أرشيفية - مواقع التواصل)

من السمات الرئيسة للقيم اتسامها بالديمومة والثبات، ومن ثم فقيمتها متمثلة في معياريتها الثابتة في الحكم على الأشياء والأشخاص والجماعات والمواقف، وفي تمييز الصالح من الطالح، والجميل من القبيح، والصواب من الخطأ، والحكمة من التهور، والحق من الباطل، والعدل من الظلم، والخير من الشر عموماً، وثبات هذه المعايير من ثبات التعايش المديد معها سلوكاً، فمن ألِف الظلم صار ظالماً، ومن ألِف القبح صار قبيحاً، ومن ألِف العدل كان عادلاً في أقواله وأفعاله، فكيف نظر الكواكبي- رحمه الله- إلى علاقة الاستبداد بتغير القيم من حيث الأخلاق والتربية والرغبة في الترقي؟

العرَض السادس: الاستبداد والأخلاق

العلاقة بين الاستبداد والأخلاق عند الكواكبي علاقة تأثير على إرادة الإنسان، فالذي يألف أن يعيش خاضعاً للاستبداد وأسيراً له يألف شر الخصال على حد تعبير الكواكبي رحمه الله، ذلك أن "أسير الاستبداد، العريق فيه، يرث شرَّ الخصال، ويتربّى على أشرِّها، ولا بدَّ أن يصحبه بعضُها مدى العمر".

وآثار هذا الأَسر عميقة حتى على إنسانية هذا الأسير، إذ بفقده حسن الخصال يفقد حتى معنى وجوده ومقصده، فالأخلاق- كما عرفها الكواكبي- هي تلك الملَكة المطردة على "قانون فطري تقتضيه أولاً وظيفة الإنسان نحو نفسه، وثانياً وظيفته نحو عائلته، وثالثاً وظيفته نحو قومه، ورابعاً وظيفته نحو الإنسانية، وهذا القانون هو ما يسمّى عند الناس بالناموس".

إن الأخلاق بهذا المفهوم عند الكواكبي– رحمه الله- هي من تصنع الإرادة، وحين تنعدم يصبح فاقدها دون الحيوان طالما يتحرك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه، "وما هي الإرادة؟ هي أمُّ الأخلاق، هي ما قيل فيها تعظيماً لشأنها: لو جازت عبادة غير الله لاختار العقلاء عبادة الإرادة! هي تلك الصفة التي تفصل الحيوان عن النّبات في تعريفه بأنّه متحرك بالإرادة. فالأسير، إذن، دون الحيوان، لأنّه يتحرّك بإرادة غيره لا بإرادة نفسه".

العرَض السابع: الاستبداد والتربية

ولأن الاستبداد مُفسد للأخلاق، فهو يتولى تأليف أسراه على التطبُّع بالخصال السيئة، فيستبيح لهم الكذب والنفاق والخيانة والتذلل، ولا يكتفي بهذه الاستباحة، بل يطالها إلى محاولة توريثها لجيل أبنائهم، ولهذا خصص الكواكبي فصلاً في علاقة الاستبداد بالتربية، فتجده يقارن بين التربية في الأمم التي يخلو فيها الاستبداد أو ما سماها بالحكومات المنتظمة، ومثيلاتها التي ترزح في ظل الاستبداد.

ذلك أن "الحكومات المنتظمة هي التي تتولّى ملاحظة تسهيل تربية الأمة من حيث تكون في ظهور الآباء، وذلك بأن تسنّ قوانين النكاح، ثم تعتني بوجود القابلات والملقّحين والأطباء، ثمَّ تفتح بيوت الأيتام اللُّقطاء، ثم تعدُّ المكاتب والمدارس للتعليم من الابتدائي الجبري إلى أعلى المراتب، ثمَّ تسهِّل الاجتماعات، وتمهِّد المسارح، وتحمي المنتديات، وتجمع المكتبات والآثار، وتقيم النُّصب المُذكِّرات، وتضع القوانين المحافظة على الآداب والحقوق، وتسهر على حفظ العادات القومية، وإنماء الإحساسات المللية، وتقوّي الآمال، وتيسِّر الأعمال، وتؤمِّن العاجزين فعلاً عن الكسب من الموت جوعاً، وتدفع سليمي الأجسام إلى الكسب ولو في أقصى الأرض، وتحمي الفضل وتقدِّر الفضيلة.

وهكذا تلاحظ كلَّ شؤون المرء؛ ولكن، من بعيد، كي لا تخلّ بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه، أما المعيشة الفوضوية في الإدارات المستبدّة فهي غنية عن التربية؛ لأنها محضُّ نماء يشبه الأشجار الطبيعية في الغابات والحراش، يسطو عليها الحرق والغرق. وتحطِّمها العواصف والأيدي القواصف، ويتصرَّف في فسائلها وفروعها الفأس الأعمى، فتعيش ما شاءت رحمة الحطّابين أن تعيش، والخيار للصُّدفة تعوّج أو تستقيم، تثمر أو تعقم…".

والكواكبي على الرغم من تأكيده أهمية الدين في حفظ الأخلاق والقيم، فهو يعتبر أن الدين من أهم فروع التربية، في حين يعلي من شأن وجود المربين ويعتبر هذا الوجود من أصول التربية، ذلك أن "الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر؛ لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوّى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرّياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف تلك الحال؛ أي الرّياء، أن يستعمله أيضاً مع ربِّه، ومع أبيه وأمِّه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه".

ويخلص الكواكبي إلى خلاصة أن التربية المنشودة يحول دون تحقيقها مانعُ طبيعة الاستبداد، وبزوال هذا المانع الضاغط تتحقق، حيث يقول: "ثمَّ إنَّ التربية التي هي ضالّة الأمم، وفقدها هي المصيبة العظيمة، التي هي المسألة الاجتماعية؛ حيث الإنسان يكون إنساناً بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمّة.

والتربية المطلوبة في رأي الكواكبي هي التربية المرتَّبة على إعداد العقل للتمييز، ثمَّ على حسن التفهيم والإقناع، ثمَّ على تقوية الهمّة والعزيمة، ثمَّ على التمرين والتعويد، ثمَّ على حسن القدوة والمثال، ثمَّ على المواظبة والإتقان، ثمَّ على التوسّط والاعتدال، وأن تكون تربية العقل مصحوبةً بتربية الجسم، لأنهما متصاحبان صحةً واعتلالاً، فإنه يقتضي تعويد الجسم على النظافة وعلى تحمُّل المشاقّ، والمهارة في الحركات، والتوقيت في النوم والغذاء والعبادة، والترتيب في العمل وفي الرياضة والراحة.

وأن تكون تلكما التربيتان مصحوبتين أيضاً بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه. فإذا كان لا مطمع في التربية العامّة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولاً وراء إزالة المانع الضاغط على هذه العقول، ثمَّ بعد ذلك يعتنوا بالتربية؛ حيث يمكنهم حينئذٍ أن ينالوها على توالي البطون، والله الموفق".

العرَض الثامن: الاستبداد والترقي

وعلاقة أثر الاستبداد بالأخلاق كبيرة، إذ يُفسدها ويهوي بالإنسان الأسير له إلى دركات الحيوانية، حيث إنه- كما ذكر الكواكبي- يصبح أحط من الحيوان، ما دام الحيوان يتحرك بإرادة ذاتية، في حين يتحرك أسير الاستبداد بإرادة غيره من البشر، فإن هذه المرتبة المنحطة تأتي من كون هذا الأسير للاستبداد ليس له طموح إلى الارتقاء بآماله وطموحاته وإنسانيته، من هذا المنظور أكد الكواكبي- رحمه الله- أن علاقة الاستبداد بالترقي علاقة تخاصم وعداء، فالاستبداد عدو الترقي، ذلك أن الترقّي الحيوي الذي يجتهد فيه الإنسان بفطرته وهمّته هو "أولاً: الترقّي في الجسم صحّةً وتلذُّذاً، ثانياً: الترقّي في القوّة بالعلم والمال، ثالثاً: الترقّي في النفس بالخصال والمفاخر، رابعاً: الترقّي بالعائلة استئناساً وتعاوناً، خامساً: الترقّي بالعشيرة تناصراً عند الطوارئ، سادساً: الترقّي بالإنسانية، وهذا منتهى الترقّي.

وهناك نوعٌ آخر من الترقّي ويتعلق بالروح وبالكمال، وهو أنَّ الإنسان يحمل نفساً مُلهمة بأنَّ لها وراء حياتها هذه حياةً أخرى يترقّى بها على سلّم العدل والرحمة والحسنات. وهذه الترقّيات، على أنواعها الستّة، لايزال الإنسان يسعى وراءها ما لم يعترضه مانعٌ غالبٌ يسلب إرادته، وهذا المانع إمَّا هو القدر المحتوم، المسمّى عند البعض بالعجز الطبيعي، وإما هو الاستبداد المشؤوم.

على أنَّ القدر يصدم سير الترقّي لمحةً، ثمَّ يطلقه فيكرُّ راقياً. وأما الاستبداد فإنَّه يقلب السير من الترقّي إلى الانحطاط، ومن التقدم إلى التأخر، من النماء إلى الفناء، ويلازم الأمة ملازمة الغريم الشحيح، ويفعل فيها دهراً طويلاً أفعاله التي تقدَّم وصفُ بعضها في الأبحاث السابقة، أفعاله التي تبلغ بالأمة حطّة العجماوات فلا يهمها غير حفظ حياتها الحيوانية فقط".

وكما أن الاستبداد يبلغ بالإنسان وبالأمة الرازحة تحت حكمه أحط درجات الانحطاط والتأخر، فإنه في ظل الحكم العادل يبلغ الإنسان والأمة أرقى درجات التقدم والترقي والنماء، كما بيَّنَ ذلك الكواكبي- رحمه الله- في قوله: "قد بلغ الترقّي في الاستقلال الشخصي في ظلال الحكومات العادلة، لأن يعيش الإنسان المعيشة التي تشبه في بعض الوجوه ما وعدته الأديان لأهل السعادة في الجنان. حتى إنَّ كلًّ فردٍ يعيش كأنه خالدٌ بقومه ووطنه، وكأنه أمينٌ على كلِّ مطلب، فلا هو يكلِّف الحكومة شططاً ولا هي تهمله استحقاراً".

يتبع.

لمتابعة المقالات السابقة للكاتب في الموضوع نفسه يمكنك الضغط هنا.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

أحمد بوعشرين
كاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي
ناشط حقوقي وسياسي، وكاتب وباحث في قضايا الفكر السياسي الإسلامي، من مواليد مدينة مكناس بالمغرب، خريج كلية الحقوق جامعة المولى إسماعيل تخصص اقتصاد، حاصل على الماجستير في الفكر الإسلامي من جامعة بيروت الإسلامية، ودبلوم دكتوراه في الفيزياء من جامعة محمد بن عبد الله بفاس، ناشط جمعوي ورئيس سابق لجمعية منبر الحوار للتربية والثقافة والفن.
تحميل المزيد